No Image
ترجمة

الأزمة الحقيقية في النظام الدولي «2-2»

30 ديسمبر 2021
30 ديسمبر 2021

ألكسندر كولي ـ دانيال نكسون -

ترجمة: أحمد شافعي -

أحرقت الولايات المتحدة مبالغ مذهلة من الأموال في المآزق الدولية، ولم تجن إلا تفكك الهيمنة بالشرق الأوسط وانهيار مشروع أفغانستان

التوسع في الحقوق الليبرالية خلال العقود الأخيرة كان بمثابة الوقود لرد فعل متزايد

تنذر هذه اللحظة المحددة من النظام الدولي بمجيء حرب باردة جديدة، دافعها تنافس محتدم بين بكين وواشنطن

بصفة أعم، تخاطر الليبرالية بتقويض نفسها. في قلب الليبرالية السياسية المعاصرة يكمن إيمان بعالمية حقوق وقيم معينة ـ إيمان بأنها توجد بغض النظر عن الاختلافات بين البلاد أو الثقافات أو الخلفيات التاريخية. ويتبنى نظام معاهدات حقوق الإنسان هذا الفهم، حيث تلتزم الدول الموقِّعة بحماية حقوق محددة من قبيل الإجراءات القانونية الواجبة، وتلتزم بالامتناع عن انتهاكات محددة لحقوق الإنسان من قبيل التعذيب.

غير أن التوسع في الحقوق الليبرالية خلال العقود الأخيرة كان بمثابة الوقود لرد فعل متزايد. فقد أثارت جهود إدارة أوباما لتعزيز حقوق المثليين بالخارج، من خلال وزارة الخارجية في العادة، غضبا بين المحافظين في بلاد مختلفة اختلاف التشيك وأوغندا. ويثير توسع القيم الليبرالية المعاصرة ـ من حقوق المثليين إلى المساواة الجندرية إلى حقوق المهاجرين ـ ردود فعل سلبية في كل من الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية. ويوفر للساسة المناهضين لليبرالية فرصا لإفراد قيم ليبرالية معينة واستعمالها ضد خصومهم.

ولقد نجحت موسكو، ربما عن غير قصد، في تصوير نفسها منارةً للقيم التقليدية من خلال حملة تشويهٍ لحقوق المثليين باعتبارها ستارا للانتهاكات الجنسية للأطفال. وليس في هذه الاستراتيجية شيء جديد بصفة خاصة. لكن الجدير بالملاحظة هو انتشارها عبر الحدود وتحولها إلى قاعدة لسياسات مناهضة لليبرالية في بعض البلاد. فهذه النوعية من الاستراتيجيات الانتهازية تستعمل لتقويض دعم المجتمع الدولي للإصلاحيين من خلال ربطهم بالقيم غير الليبرالية. فعلى سبيل المثال، ألغت منظمة العفو الدولية حالة نفالي بوصفه «سجين رأي» إثر حملة إعلامية مدعومة من الكريملين أبرزت تصريحات معادية للأجانب كان قد أدلى بها في الماضي بشأن المهاجرين من وسط آسيا. وليس القصد أنه ينبغي أن تتراجع الولايات المتحدة عن وضع حقوق المثليين ضمن سياستها الخارجية أو أن تمر تصريحات نفالي المزعجة بشأن المهاجرين دونما عواقب. إنما القصد هو أن الساسة وهم يعملون على تعزيز الحقوق الليبرالية لا بد أن يتعاملوا بحكمة مع المفاضلات والتباينات والخلافات.

وهذا يتجاوز شؤون تعزيز الديمقراطية والحقوق المدنية. فقد أصابت إدارة بايدن حينما أعلنت الفساد مخاطرة أمنية وطنية. لكن إجراءات مناهضة الفساد سوف تؤدي إلى ردود فعل سلبية من شأنها أن تمثل بدورها تخوفا أمنيا وطنيا. والإجراءات العنيفة سوف تهدد طبقات الحكم الأوليجاركية المترابطة سياسيا في أوروبا وغيرها. ويحتمل أن يرى الطغاة الفاسدون عددا من الجهود المناهضة للفساد ـ من قبيل التوسع في الاشتراطات المفروضة على مقدمي الخدمات ومنع المسؤولين الأجانب من تلقي الرشوة ـ تهديدا جسيما لأنظمتهم الحاكمة فيسوقون شعوبهم ضد هذه الأشكال الجديدة من «التدخل». وسوف تؤدي الخطوات المهمة للحفاظ على الليبرالية ـ حتى الدفاعية منها ـ إلى ردود أفعال ضد النظام الليبرالي، ولن يكون ذلك في الخارج فقط. فالإجراءات المناهضة للفساد تهدد نطاقا واسعا من الساسة ورجال الأعمال والاستشاريين الأمريكيين. وفي السنين الأخيرة، وبخاصة بعد حملة 2016 الانتخابية، باتت تلك النوعية من الإجراءات مصدرا آخر للاستقطاب الحزبي.

رجعيون بلا حدود

ليس ذلك الاستقطاب ظاهرة محلية منفصلة. فالشعبوية الرجعية الأمريكية تجلٍّ لنزعة عالمية. وليست الشعبية الدولية التي يحظى بها رئيس الوزراء المجري فكتور أوربان في أوساط كتاب اليمين، والزعماء العنصريين، والمشاهير المحافظين (وبخاصة الأمريكيين) إلا دليلا يبرز في شبكات مناهضة الليبرالية طبيعتها العابرة للحدود. لقد ظهر أوربان ـ الذي لوحظ أن إدارة بايدن لم توجه إليه الدعوة لحضور قمة الديمقراطية المعتزمة في ديسمبر ـ بوصفه حبيبا لإعلام اليمين الأمريكي: فهو رأس دولة يدين ما لرجل الأعمال والإحسان جورج سوروس من قوة، ويروج للسياسات المناهضة للهجرة، ويناصر القيم الموروثة. يخطط (مؤتمر العمل السياسي المحافظ) ـ وهو من منابر اليمين الأمريكي الكبيرة ـ لإقامة اجتماعه السنوي لعام 2022 في المجر. وقد قضى تاكر كارلسن المذيع في شبكة فوكس نيوز ـ والذي يمكن القول: إنه الشخصية الإعلامية المحافظة الأكثر نفوذا في الولايات المتحدة ـ أسبوعا في المجر في صيف 2021 لمحاورة أوربان، والثناء على حكمه، وإطلاع الجماهير على المجر بوصفها مثالا للديمقراطية. وقد كرر كارلسن رؤية أوربان لعالم يعاني أزمة ثقافية عميقة، ولحضارة غربية يفترض أن مصيرها قد بات على المحك، وهذا الخطر المفترض هو الوشيجة التي توحِّد اليمين العابر للحدود.

لقد عزز أوربان سلطته من خلال تكتيكات شرعية من الناحية الإجرائية، لكنها في جوهرها نالت من سيادة القانون. فقد كدَّس المحاكم بالحزبيين وضغط على الإعلام المستقل أو أعمل فيه الاعتقال والإسكات. وهجوم أوربان السافر على الحرية الأكاديمية ـ بما في ذلك من منع الدراسات الجندرية وطرد الجامعة الأوربية المركزية من المجر ـ له ما يماثله في الجهود اليمينية الراهنة في الولايات الخاضعة لسيطرة الجمهوريين والرامية إلى حظر تدريس (النظرية العرقية النقدية) واستهداف الأكاديميين الليبراليين من اليسار. لقد فشلت الحواجز التي استهدفت صد مناهضة الليبرالية. فأستاذ العلوم السياسية آر دانيال كيليمن يبين على سبيل المثال كيف أن الاتحاد الأوربي ـ وهو النموذج المفترض للأعراف الديمقراطية الليبرالية ـ لم يفعل جوهريا أي شيء لمنع سلطات المجر وبولندا من إضعاف الديمقراطية في بلديهما على نحو متزايد. والبرلمان الأوربي يقيم تجماعت حزبية مناطقية تعمل فعليا على حماية الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوربي من قبيل حزب فيدس في المجر وحزب العدالة والقانون في بولندا من المعاقبة. ويسمح سوق العمل الأوروبي المشترك للخصوم السياسيين والمواطنين الساخطين بالمغادرة والانتقال ببساطة إلى بلاد أوروبية أخرى، بما يضعف المعركة ضد السياسات المناهضة للأوروبية في الوطن. وليست هذه الديناميات في واقع الأمر بالمختلفة تماما عن أمثالها في النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة: فالمحاكم تحمي الممارسات المناهضة للديمقراطية من قبيل التلاعب السافر في تقسيم الدوائر الانتخابية وقمع الناخبين المستهدف، وبعض الولايات الخاضعة لسيطرة الجمهوريين سنت قوانين تهدف إلى السماح للبرلمانيين بالتدخل في الإشراف على الانتخابات المحلية بذريعة منع التزوير. وكثير من أولئك المسؤولين الجمهوريين الذين أزعجتهم هذه الانعطافة الاستبدادية الحادة من قبل حزبهم لم يفعلوا شيئا يذكر في المقابل خوفا من التداعيات السياسية الشخصية أو من الإضرار بالآفاق الانتخابية للحزب.

يمثل إعلاء المثقفين ومذيعي التلفزيون اليمينيين الأمريكيين لأوربان مثالا واضحا لكثافة الروابط التي تشكل جوهر قدرة النظام الليبرالي على تيسير صعود الحركات المناهضة للديمقراطية. ومثال آخر يتمثل في عضوية إدواردو بولسونارو ـ وهو من أبناء الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو ـ في مجموعة قومية ممولة من الشعبوي الأمريكي الرجعي ستيف بانون. فالأموال القاتمة [Dark money أي التبرعات الرامية إلى التأثير في توجهات الرأي العام والناخبين] الأمريكية تضمن الأحزاب والحركات المناهضة لليبرالية في الخارج. في الوقت نفسه، يقوم الفسدة بغسيل الأموال داخل امريكا في حسابات مصرفية، وعقارات، وفي السياسة أيضا. وهذا ما يؤجج الشعبوية في الولايات المتحدة من خلال تأثيرها الفاسد. ويرى الكثير من حكام القلة والفاسدون في أسلوب حكم الشعبويين الرجعيين الوراثي ـ كالذي اتبعه ترامب ـ داعما لمصالحهم ومن ثم يسعدهم أن يدعموه بأي طريقة يستطيعون إليها سبيلا. والتمويل الروسي ـ المقدم غالبا من خلال جهات حكم تابعة للكرميلين ـ يدعم المنظمات اليمينية المحافظة ثقافيا في أوروبا وأمريكا الشالية بهدف تقويض النظام الليبرالي. مع اتساع الصدوع في كثير من البلاد الديمقراطية الليبرالية ظاهريا، سوف تتطلب أي سياسة خارجية أمريكية تروم الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية من إدارة بايدن ـ أو أي إدارة مستقبلية للحزب الديمقراطي ـ أن تنحاز على المستوى السياسي المحلي للبلاد الحليفة شبه الديمقراطية. وحينما جربت إدارة أوباما هذا النهج، جربته بصورة عشوائية وغير فعالة. والملحوظ أن إدارة بايدن أحجمت ـ علنا على الأقل ـ عن الاستفادة من التزامات حقبة ترامب الأمنية تجاه بولندا للضغط على حزب القانون والعدالة بشأن التراجع الديمقراطي في البلد. من ناحية أخرى، أيدت إدارة ترامب علنا الحكومات اليمينية المناهضة لليبرالية في المجر وبولندا، ويحتمل أن تكون جهود ترامب لدعم أندريه دودا في انتخابات الرئاسة البولندية سنة 2020 قد ساعدته في تضخيم فوزه على رافال تراشكوفسكي عمدة وارسو الأكثر ليبرالية. ولم تمارس إدارة ترامب أو سفيرها لدى المجر على أوربان ليتراجع عن قراره سنة 2018 بطرد الجامعة الأوروبية المركزية ـ المؤسسة بأموال جورج سوروس ـ برغم أن الجامعة كانت تمثل أضخم استثمار أمريكي في التعليم العالي في أوربا ما بعد الحرب الباردة.

لا جدال في أن رئيسا أمريكيا يتحالف بصورة أكثر انفتاحا وجوهرية مع أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط الليبرالية في الخارج سوف يخاطر بمزيد من التسييس لعلاقات أمريكا الخارجية، وبصفة أخص في ما يتعلق بالأجندة العابرة للأطلسي التي لم تزل تحظى بدعم من الجمهوريين النافذين. ولكن كما هو الحال مع كثير من المآزق التي تسبب فيها صعود مناهضة الليبرالية، فإن محاولة اجتناب المزيد من تسييس شيء أو التحزب لآخر تعني عمليا التنازل عن ميزة كبيرة للقوى المناهضة لليبرالية.

أصداء التاريخ

بالنسبة للكثيرين، تنذر هذه اللحظة المحددة من النظام الدولي بمجيء حرب باردة جديدة، دافعها تنافس محتدم بين بكين وواشنطن. ولكن تشبيها أفضل، وإن يكن متوترا هو الآخر، يمكن استحضاره من التاريخ متمثلا في «أزمة الأعوام العشرين» ـ وهي الفترة المشحونة بين الحربين العالميتين ـ حين واجهت البلاد الديمقراطية ضغوطا عديدة منها الكساد الكبير والمحافظة الرجعية والاشتراكية الثورية والتوترات الدولية المتزايدة. بدت البلاد الديمقراطية الليبرالية فاقدة للدفة، منقسمة داخليا، وعاجزة بصفة عامة عن النهوض للتحدي. كانت تكافح من أجل التكيف مع القوى التكنولوجية المتعولمة، ومنها وسائل جديدة للاتصال الجماهيري يمكن أن تستعملها القوى المناهضة لليبرالية ببراعة لصالحها. أججت الهجرة الدولية نيران المحلية. هاجمت السياسات والأفكار المناهضة لليبرالية على المستوى العالمي، منتشرة في البلاد الديمقراطية القديمة والجديدة على السواء. وشهدت أواخر العشرينيات وبدايات الثلاثينيات من القرن العشرين تضاؤل جهود القوة الديمقراطية ـ أي فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ـ لمنع صعود الفاشية في الخارج أو منع انزلاق الديمقراطيات إلى الفاشية الاستبدادية الرجعية.

تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم في موقف غير مختلف بالكلية. فقد قضى الجمهوريون حملة 2020 الرئاسية وهم يصفون الحزب الديمقراطي بـ«الشيوعي» ويربطون منافسيهم بعاصمة الصين الاستبدادية، إذ زعم الإعلام اليميني أن بكين متورطة في العديد من أبغض الأمور إليهم ومنها النظرية العنصرية النقدية. ومن جانبهم، ربط الديمقراطيون بين الجمهوريين ـ وبخاصة ترامب ـ والأيديولوجية القومية البيضاء اليمينية المتطرفة واستحضروا شبح الميلشيات المتطرفة وغيرها من الجماعات المسلحة المحلية. ويصعب على صناع السياسة الأمريكيون أن يتبعوا سياسة خارجية فعالة متماسكة دفاعا عن النظام الليبرالي لسبب بسيط هو أن الشعب الأمريكي منقسم انقساما شديدا. بل إن هذا التوازي التاريخي يوفر بعض أسباب المحدودة للتفاؤل. تقول الحكاية إن برنامح الإنفاق الهائل في (الصفقة الجديدة New Deal) جدَّد جاذبية الديمقراطية الليبرالية، إذ حوّل الرئيس فرانكلين روزفلت أمريكا إلى «ترسانة للديمقراطية». وهزمت الولايات المتحدة وحلفاؤها ألمانيا وإيطاليا واليابان برا وبحرا وجوا. وهذه الهزيمة الشاملة ـ ومعها الذيوع الكبير للأعمال الوحشية التي ارتكبتها قوات المحور ـ شوهت الفاشية وأفقدتها مصداقيتها. يبدو أن بايدن يفضل هذا التشبيه. ففي سياسته الداخلية، يسعى إلى نسخته الخاصة من (الصفقة الجديدة) عبر مزيج من قوانين الإنفاق المهمة ومنها خطة الإنقاذ الأمريكية وقانون الوظائف واستثمار البنية الأساسية وقانون آخر للبنية الأساسية كان في غياهب الإهمال خلال كتابة هذه المقالة. وفي سياسته الخارجية، يريد بايدن أن يقيم تحالفا بين البلاد الديمقراطية بقيادة أمريكية لمواجهة تحدي صعود مناهضة الليبرالية وبصفة خاصة لمواجهة الجهود الصينية والروسية لإعادة بناء النظام العالمي على أسس أكثر أوتقراطية. ويرجو البيت الأبيض أن تقوى هذه المبادرة باجتماع القادة في منتديات من قبيل قمة الديمقراطية.

بشروط من؟

ومع ذلك لا تصب الرهانات في صالح الإدارة. فالولايات المتحدة قد تكون أغنى وأقوى بلد في العالم، لكن الصين تتحدى نفوذ الولايات المتحدة على النظام الدولي، وسوف تستمر في ذلك وإن تحول صعودها الدراماتيكي إلى ركود. وواشنطن تجني تكاليف عقدين من الإخفاقات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. فلقد أحرقت الولايات المتحدة مبالغ مذهلة حقا من الأموال في هذه المآزق الدولية الفاشلة، فلم تجن في نهاية المطاف إلا تفكك الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط والانهيار التام لمشروعها لبناء الدولة في أفغانستان. ومع ذلك ينبغي أن تكون الجبهة المحلية أكثر إثارة لقلق الولايات المتحدة. فقد يتقدم الحزبان متخبطين ويجتنبان تدمير ديمقراطية الولايات المتحدة الليبرالية ـ وليس هذا بالإنجاز البسيط في ما يتعلق بالأفعال الجمهورية غداة انتخابات 2020 الرئاسية. ولكن يبقى ثمة سحق تام من الاستقطاب السياسي المستفحل، واتباع موغل من الحزبين لتكتيكات الأرض المحروقة، وجمود تشريعي. وهذه العلل أدت إلى جملة من المشكلات الإضافية. فحلفاء الولايات المتحدة وخصومها على السواء يعون تمام الوعي بأن أي اتفاق يبرمونه مع الولايات المتحدة قد لا يبقى إلى ما بعد الإدارة القائمة خلال إبرامه. وليس بوسع مجلس الشيوخ الأمريكي أن يقر المعاهدات في المستقبل المنظور وهو ما يحد من قدرة واشنطن على السعي إلى إصلاحات ذات شأن في النظام الدولي، ومن ذلك ممارسة قيادة متماسكة في شؤون مثل تغير المناخ.

بعد ثلاثين سنة من الاستقطاب السياسي الحاد والخلل الوظيفي في هذا البلد، فشلت مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية في التعامل مع هذا الواقع. ويعترف البعض بأن ترويج الديمقراطية الليبرالية الآن يمثل أولوية أقل أهمية من منع التراجع عن الديمقراطية أصلا. لكن هذا الجدالات في السياسة لم تزل بعيدة عن معالجة احتمالية أن تأتي الإدارة القادمة لتتراجع عن أي سياسة جديدة سواء أهذا التراجع أفضل أم أسوأ من وضع سياسة جديدة في المقام الأول، أو كيفية تعديل سياسة جديدة بحيث يصعب التراجع عنها.

بدلا من مواجهة علنية لمشكلة الثقة هذه، يروج محللو السياسة الخارجية ـ ضمنيا أو صراحة ـ لفكرة أن نهجا محددا ـ في إدارة العلاقات الأمريكية مع الصين على سبيل المثال أو لإدارة التجارة الدولية ـ سوف يكون النهج الذي يقدم بصورة سحرية قاعدة توافق حزبي جديد. ولكن هذا وضعا للعربة أمام الحصان. ففي حال تمكن الأمريكيين من صياغة فهم مشترك على نطاق واسع للتهديدات الدولية واتفاق على الغرض من السياسة الخارجية الأمريكية، لن تكون هناك أصلا أزمة سياسية داخلية خطيرة تستوجب الحل.

ولكن هناك جملة من المشكلات المرهقة كامنة في بنية النظام الليبرالي نفسه. والوضع الحالي حافل بالتوترات، وكذلك بالتشظي الداخلي، بما يجعله ضعيفا بصورة غير متزنة. ولكي يتسنى له البقاء، فلا بد للنظام الليبرالي أن يتغير. سوف يتحتم على المسؤولين الأمريكيين الراغبين بإخلاص في الدفاع عن النظام الليبرالي أن ينحازوا إلى أطراف، سواء على المستوى الداخلي أو في ممارسة الولايات المتحدة لسياستها الخارجية. وفي ثنايا قيامهم بذلك، سوف يطمسون التمايز بين الممارسات الليبرالية والممارسات المناهضة لليبرالية. وسوف يلزمهم أن يخرقوا أعرافا داخلية، من قبيل عدم تعديل حجم واختصاص النظام القضائي الفيدرالي بسبب تركيبته الأيديولوجية. وسوف يتحتم عليهم أيضا التراجع عن أعراف ما بعد الحرب الباردة، من قبيل الحد من المحاباة للفصائل السياسية لدى الحلفاء الديمقراطيين الكبار. وسوف يلزمهم أن يفعلوا ذلك وهم يفهمون بوضوح أن هذه الأفعال قد تأتي بنتائج عكسية وتوفر غطاء خطابيا للممارسات المناهضة لليبرالية والديمقراطية داخليا وخارجيا.

على الصعيد الاقتصادي، يبدو الديمقراطيون والجمهوريون مستعدين للتضحية بقدر من الانفتاح، لكن لكل من الطرفين غاية في النهاية. من حسن الحظ، أن أغلب الخطوات اللازمة للحفاظ على النظام الليبرالي ـ من قبيل تضييق الخناق على تدفق أموال الفاسدين الأجانب إلى الولايات المتحدة ـ سوف تسدد ضربات مؤلمة للقوى الخارجية المناهضة لليبرالية، حتى لو بدا أنها سياسات داخلية.

وتبقى مصارعة التهديدات الداخلية لليبرالية مسألة شائكة. فقد أثمر الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية بالطبع تجاوزات مريعة في الماضي، منها القمع الذميم والعنف الرهيب. فقد تبنى المسؤولون الأمريكيون عن وعي سياسات مناهضة لليبرالية خلال (الهلع الأحمر Red Scare) بعد الحرب العالمية الأولى، حينما لاح في الافق الشبح البلشفي مروع الضخامة. ففي محاولة لصد المد اليميني المتطرف اليوم، تخاطر الولايات المتحدة بالرجوع إلى تلك الأزمنة المظلمة. لكن بديل التقاعس ـ

أي عجز الليبرالية الغربية عن رد ضربات الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين ـ يبقى خيارا خطيرا.

والتاريخ دليل غير مكتمل. فالفاشية منيت بالهزيمة ـ لمرة على أقل تقدير ـ في ميادين الحرب العالمية الثانية. ولو أن هتلر كان أقل اهتماما بالغزو العسكري، فلعل الدول الفاشية كانت لتبقى جزءا طبيعيا تماما من الأفق العالمي الراهن. والاتحاد السوفييتي، من جانبه، انهار بسبب مزيج من أوجه القصور في اقتصاده الموجه، وضغوط قومية، وخيارات سياسية تبين أنها شديدة البؤس. ليس بوسع الولايات المتحدة أن تفكر حقا في إلحاق الهزيمة بمناوئيها الاستبداديين الراهنين من خلال حرب كاملة، فمن شأن ذلك على الأرجح أن يثمر صراعا نوويا كارثيا. والمناوئ الاستبدادي الأهم للولايات المتحدة، أي الصين، يختلف كدولة تمام الاختلاف عما كان عليه الاتحاد السوفييتي. فالصين ثرية، ودينامية نسبيا وبرغم أن لها نصيبها من المشكلات البنيوية، فليس من الواضح بالقدر الكافي أن أوجه القصور لديها أسوأ من مثيلاتها لدى الولايات المتحدة.

باختصار، ليس بين المسارات التاريخية المفضية إلى انتصار الليبرالية أيديولوجيا ما يبدو مرجح الحدوث. وهذا يعني أن البلاد الديمقراطية الليبرالية بحاجة فعلية إلى افتراض أنها لن تستعيد مقعد الصدارة في النظام الدولي عما قريب. ومن ثم فالسؤال المطروح ليس عما إذا كان النظام الدولي سوف يتغير من عدمه، وإنما السؤال هو عمن سيضع شروط هذا التغير.

ألكسندر كولي مدير معهد هاريمان في جامعة كولمبيا وأستاذ كلير تاو للعلوم السياسية في كلية برنارد

ـ دانيال إتش نكسون أستاذ في قسم الحكم بمدرسة وولش للخدمة الخارجية في جامعة جورجتاون