العرب والعالم

الولايات المتحدة ليست مستعدة لـ"ردع الاعداء"

27 يناير 2022
27 يناير 2022

تواجه الولايات المتحدة الكثير من التحديات في ظل التوترات العالمية القائمة، وتصدع التحالفات الكلاسيكية، فمع خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، والخلافات الحاصلة مع دول الناتو حول التعامل مع الازمة الاوكرانية وكيفية وقف زحف الدب الروسي، اضافة الى الانقسام الأمريكي الداخلي واختلاف وجهات النظر تجاه مختلف القضايا.

يقول المحلل السياسي الأمريكي رافائيل كوهين، الضابط السابق بالجيش الأمريكي وأحد كبار العلماء بمؤسسة البحث والتطوير الأمريكية (راند)، في تقريره الذي نشرته المؤسسة البحثية، إن الكونجرس أقر في ديسمبر الماضي، بعد شد وجذب، ميزانية دفاع بقيمة 768 مليار دولار، وبزيادة قدرها 25 مليار دولار عما طلبته إدارة بايدن.

ولا شك أن هذا أمر كان نبأ سارا لصقور وزارة الدفاع، حيث تواجه الولايات المتحدة تهديدات متزايدة على العديد من الجبهات، في ظل ما تظهره الصين من اتجاه عدائي متصاعد تجاه تايوان، واستعداد روسيا لغزو أوكرانيا، وموقف إيران في مفاوضات الاتفاق النووي.

ويضيف كوهين، مدير برنامج استراتيجية وعقيدة سلاح الجو الأمريكي بمؤسسة "راند"، أنه رغم حقيقة أن الكثير من المخصصات الرئيسية لميزانية الدفاع تركز على تعزيز الردع، هناك حقيقة مقلقة تكمن وراء ذلك: وهي أنه رغم أن كل هذه المخصصات قد تكون ضرورية، فإنها ليست ركنا كافيا لردع أعداء الولايات المتحدة.

اندلاع حرب أهلية

ويقول كوهين إنه رغم أن وزارة الدفاع هي المؤسسة الوحيدة التي تتركز مهمتها الرئيسية حول الردع، فإنها في واقع الأمر مسؤولة فقط عن نصف ما ينبغي أن نعتبره ردعا. فالقوة العسكرية توفر ما وصفه عالم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل توماس شيلينج بأنه " القوة للإيذاء". إذن، يتطلب الردع الناجح شيئا أكثر- وهو القدرة على إظهار موثوق به للاستعداد لاستخدام القوة إذا لزم الأمر. ولكن، وعلى أية حال، تعتبر إرادة استخدام القوة مسألة سياسية في نهاية الأمر ليست في يد وزارة الدفاع ولكن في يد القيادة السياسية، وبصورة أكثر جوهرية، في يد الشعب الأمريكي. ودعم الشعب الأمريكي للردع الآن محل تساؤل كبير للغاية.

فالشعب الأمريكي يشعر بالغضب، ولا يرتكز قدر كبير من هذا الغضب على الخارج، بل على الداخل. فطوال العام الماضي كشفت استطلاعات رأي متعددة أن الأمريكيين يرى كل منهم الآخر الآن يمثل تهديدا أكبر من التهديدات التي يواجهونها وراء حدودهم. كما أنهم يفتقدون أيضا الثقة في معظم المؤسسات الحكومية. ورغم أن الكونجرس كان محل عدم ثقة منذ عقود، امتد عدم الثقة الآن ليشمل الرئاسة. وهناك دلائل أيضا على أن ثقة الأمريكيين في الجيش- الذي كان تاريخيا أحد أهم المؤسسات التي تحظى بالإعجاب- بدأت الآن تتضاءل، لا سيما بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان وانجراف الجيش وقادته نحو حروب الثقافة في البلاد. والأمر الأكثر إثارة للتشاؤم، هو أن أغلبية من الأمريكيين يعتقدون الآن أن اندلاع حرب أهلية أخرى "أمر مرجح".

وهذه الخلفية القاتمة للانقسام الداخلي تُترجم إلى دور أمريكي مضطرب في الشؤون العالمية. ووفقا لاستطلاعات معهد جالوب العام الماضي، أبدى 39% فقط من الأمريكيين ثقتهم في قدرة الحكومة على التعامل مع المشكلات الدولية- وهي أدنى نسبة منذ بدأ المعهد توجيه هذا السؤال في عام 1997. كما أن دعم الأمريكيين لقيام الولايات المتحدة "بالقيادة أو أن تكون أكثر مشاركة" انخفض أيضا إلى أقل من النصف. وكشف استطلاع أجرته مجموعة أوراسيا للخدمات الاستشارية أن أغلبية من الأمريكيين بريدون خفض التواجد العسكري للولايات المتحدة والتزاماتها تجاه أوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط.

ويقول كوهين إن مسألة ما إذا كان لدى الولايات المتحدة الاستعداد لممارسة "قوة الإيذاء" هي سؤال مفتوح في أفضل الأحوال. فالأمريكيون مازالوا منقسمين بشكل عميق. وما تريده أمريكا من جيشها غير واضح، وعلى سبيل المثال، بينما كشف استطلاع للرأي قام به مجلس شيكاغو الدولي للشؤون العالمية أنه لأول مرة أيدت أغلبيات كبيرة من الأمريكيين استخدام القوة للدفاع عن تايوان أو أوكرانيا إذا ما قررت الصين أو روسيا غزوهما، كشف استطلاع منافس قام به معهد تشارلز كوخ عكس ذلك.

تصميم قوي

وإذا ما فشل الردع الأمريكي، فمن المحتمل ألا يكون ذلك بسبب أن أعداء الولايات المتحدة تساورهم الشكوك إزاء القدرات العسكرية الأمريكية، التي ما زالت هائلة، بقدر ما تساورهم الشكوك إزاء إرادة استخدام القوة لدى الأمريكيين. وفي نهاية الأمر، قد يثبت أن ذلك سوء تقدير. وعموما، هناك العديد من استطلاعات الرأي تشير إلى أن هناك تصميم قوي، لا سيما تجاه الصين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الرأي الشعبي لا يترجم مطلقا إلى سياسة خارجية. لقد تغلبت الولايات المتحدة على خلافات داخلية في الماضي، وربما تفعل ذلك مرة أخرى.

واختتم كوهين تقريره بالقول إنه رغم ذلك، فإنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد تدعيم الردع، يتعين عدم إعطاء أعداء أمريكا مطلقا فرصة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة مهمومة للغاية بشكوكها وانقساماتها لدرجة أنها تفتقر للقوة والدافع للتصرف بحسم في الخارج. وللأسف، فإن تغيير تلك التصورات بالنسبة للولايات المتحدة ووزارة الدفاع الأمريكية يتطلب ما هو أكثر من مبلغ الـ 25 مليار دولار الإضافي. إنه أمر يتطلب شيئا لا يمكن أن يشتريه المال: إصلاح النسيج الاجتماعي في داخل الولايات المتحدة.

عقوبات امريكية ستضر الحلفاء

يرى محللون أن معاقبة خصم في الجهة الأخرى من العالم أسهل دائمًا من معاقبة جار، مشيرين إلى أن ما يمكن أن تخسره أوروبا عبر فرض عقوبات على روسيا في الملف الأوكراني، أكبر من خسارة حليفها الأميركي.

يقول مدير معهد بروغل غونترام وولف لوكالة فرانس برس "من الواضح أن أوروبا تعرّض نفسها (لخسائر) أكثر من الولايات المتحدة، لأن القرب الجغرافي يقترن بروابط اقتصادية وأمنية وثيقة".

رغم فرض عقوبات أوروبية بعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، لا تزال موسكو خامس أكبر سوق تصديرية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، مع صادرات بقيمة 81,5 مليار يورو من يناير حتى نوفمبر 2021.

وهي أيضًا ثالث أكبّر مورّد للقارة العجوز بعد الصين والولايات المتحدة، بحسب هيئة "يوروستات" الأوروبية للإحصاءات، وقد بلغت قيمة الواردات الروسية 142 مليار يورو في الأشهر الـ11 الأولى من العام الماضي.

وأقرّت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين في مؤتمر خلال منتدى الاقتصاد العالمي في 20 يناير الحالي بأن "هذه العلاقة التجارية مهمّة بالنسبة إلينا". وجاء تصريحها في سياق تصاعد التوترات بين الغرب وروسيا وفي وقت أطلقت موسكو مناورات عسكرية على الحدود مع أوكرانيا.

إلا أن فون دير لايين أضافت أن هذه العلاقة "مهمة أكثر بالنسبة لروسيا". فالاتحاد الأوروبي هو أول شريك وأو مستثمر لديها.

ويرى المحامي المتخصص في العقوبات الاقتصادية أوليفييه دورغان أن "هامش المناورة ليس نفسه إطلاقًا بالنسبة لأوروبا" مقارنة بالولايات المتحدة، مشيرًا إلى وجود خطر "معاقبة نفسها".

وأبرز مثال على ذلك هو المحروقات التي قد تكون أحد المجالات المستهدفة بالعقوبات على موسكو في حال غامر الرئيس فلاديمير بوتين وقرّر غزو أوكرانيا، وذلك في ظل ارتفاع الأسعار في خضمّ موسم الشتاء.

ويمثّل الغاز الروسي أكثر من 40% من واردات الغاز الأوروبية وقد يؤدي نضوب جراء عقوبات غربية أو إجراءات مضادة روسية، إلى زيادة أكبر في تعرفة الطاقة لملايين الأسر.

يشير غونترام وولف إلى أن "هناك احتياطات" لكنها لا تؤمّن الحاجات سوى "لبضعة أسابيع". واعتبر أن "الاحتياطات ستنفد وسيكون إذًا من الصعب جدًا تعويض واردات الغاز الروسي بنسبة 100% بغاز من قطر أو من دول منتجة أخرى".

غير أن مسؤولًا كبيرًا في البيت الأبيض أكد الثلاثاء أن الدول الغربية اتخذت تدابير لحماية إمدادات أوروبا بالغاز الطبيعي.

ويستقبل الرئيس الأمريكي جو بايدن الاثنين 31 يناير أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في واشنطن. وجاء في بيان للبيت الأبيض أن اللقاء سيتناول الأمن في منطقة الشرق الأوسط و"تأمين استقرار الإمدادات العالمية للطاقة". وتملك قطر حليف احتياطات ضخمة من الغاز، وتعد أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم.

سويفت

الملف الثاني الكبير هو ملف القطاع المالي الروسي. فقد تمنع الولايات المتحدة روسيا من إجراء معاملاتها المالية بالدولار، أبرز عملة في المبادلات التجارية، أو استبعاد موسكو عن نظام "سويفت" الأساسي للتعاملات المصرفية العالمية والذي يضمّ 300 مصرف ومؤسسة روسية.

ستتأثر كثيرًا الشركات التي تتعامل مع روسيا. إلا أن ألمانيا، التي تقيم روابط اقتصادية قوية مع روسيا، أبدت معارضتها لاستبعاد موسكو عن "سويفت"، بحسب مصدر دبلوماسي أوروبي.

يرى المحامي أوليفييه دورغان أنه من الممكن تبني مقاربة أكثر دقةً خلال المفاوضات بين الدول الغربية، لعدم تعريض شركات أوروبية لاضطرابات اقتصادية كبيرة.

ويشير إلى أن "بدلًا من معاقبة المصارف الروسية" قد تُفرض عقوبات على "الدوائر الأكثر قربًا من فلاديمير بوتين، قد لا يُمسّ بقطاع الغاز المهمّ جدًا بالنسبة لأوروبا، إنما بقطاع النفط أولًا"، لافتًا إلى ضرورة أن تكون العقوبات أقسى من تلك التي فُرضت عام 2014.

ويقول المحامي "في حال قررت الولايات المتحدة أن تتصرف أحاديًّا، فإن تأثير العقوبات الاقتصادية الأميركية خارج حدودها، قوي جدًا إلى درجة أن الجهات الفاعلة الكبيرة في الاتحاد الأوروبي، سواء كانت مصرفية أو نفطية، ستجد أنفسها مضطرّة إلى الامتثال".

غير أن كبير الخبراء الاقتصاديين لمنطقة أوروبا في شركة "كابيتال إيكونوميكس" للدراسات أندرو كينينغهام يرى أن ذلك لا يكفي لزعزعة الاستقرار الاقتصادي الأوروبي، واصفًا تأثير العقوبات على منطقة اليورو بأنه "ضعيف وقصير نسبيًا"، مقارنة بالمخاطر المرتبطة بأزمة وباء كوفيد-19.