اليوم الدولي لمنع التطرف المفضي إلى الإرهاب وتناقضات الواقع

12 فبراير 2024
12 فبراير 2024

يحتفي العالم هذه الأيام باليوم الدولي لمنع التطرف المفضي إلى الإرهاب، والذي يوافق 12 فبراير من كل عام، وقد أقر هذا منذ عام 2016م بطلب من الأمين العام في الأمم المتحدة، وجاء من غاياته حسب موقع الأمم المتحدة في الشبكة العالمية أنه «قد أدى انتشار التطرف العنيف إلى زيادة تفاقم أزمة إنسانية غير مسبوقة تتجاوز حدود المنطقة الواحدة، فقد فر ملايين الأشخاص من المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الإرهابية والجماعات المتطرفة العنيفة، وزادت تدفقات الهجرة بعيدا عن مناطق النـزاع، طلبا للأمان، بل وباتجاه هذه المناطق أيضا، تحت إغراء المشاركة في النـزاع كمقاتلين إرهابيين أجانب، مما يزيد في زعزعة استقرار المناطق المعنية».

هذا الاحتفاء والذي يحوي من المفردات والمضامين الإنسانية الرفيعة، والتي لا تتنازع حولها العقول السليمة، ولا تتناقض مع مبادئ الأديان والفلسفات البشرية، كغيرها من مضامين حقوق الإنسان، وحرب نشر الكراهية في العالم؛ بيد أنها كأن لم تكن عندما تتجاوز سياسات المصالح الغربية، ويكون ضحيتها شعوب شرقية وغربية، كتب لها أن تكون ضحية بعض هذه السياسات، كما يحدث واقعا، ومماثلا لأعظم تطرف أفضى إلى إرهاب دموي في غزة اليوم، وما زال مستمرا في شهره الرابع، والمجازر نراها بشكل يومي أمام مسمع ومرأى من العالم، ومن هيئة الأمم المتحدة ذاتها، وقد شاركت في هذه الإبادة بعض رؤوس الفيتو في الأمم المتحدة.

وإذا كان العالم يعاني من حالات العنف المفضي إلى الإرهاب، وقد يكون العنف سببه فكري داخلي، وقد يكون سببه عوامل خارجية وعلى رأسها الاستبداد، أما السبب الفكري فهي نتيجة قراءات وإسقاطات خاطئة للنصوص الدينية كما أسلفتُ في أكثر من مناسبة، أو نتيجة تحويل المصاديق الظرفية المتعلقة بوقائع لها ظرفيتها إلى مصاديق مطلقة، مثل آية العهد الجديد: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا» [إنجيل متى، الإصحاح: 10، آية: 34]، وآية القرآن الكريم: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلَاةَ وَآَتَوُا الزَكَاةَ فَخَلُوا سَبِيلَهُمْ إِنَ اللَهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، فهذه مصاديق ظرفية حال العدوان، أو الاعتداء على النفس، ولا يعني إسقاطها كما تجعل بعض الجماعات التكفيرية والإرهابية على حالات السلم، ففي إنجيل متى نفسه: «وسمعتم أنه قيل تحب قريبك، وتبغض عدوك، أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعدائكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا معاملة الذين يبغضونكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم» [الإصحاح: 5، آية: 43 - 44]، وفي القرآن: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَهِ الَذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَ اللَهَ لَا يُحِبُ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَلْ عَلَى اللَهِ إِنَهُ هُوَ السَمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

وأما العوامل الخارجية فشرها الاستبداد، كان بشكل عالمي كما يحدث الآن في فلسطين عموما، وغزة خصوصا، فالاستبداد العالمي ضد شعب أعزل؛ طبيعي أن تنمو فيه جماعات نضالية، ولو باستخدام العنف لتحقيق البقاء وأخذ الحق، وماثل هذا ما حدث في أجزاء عديدة من العالم كبعض دول أمريكا اللاتينية مثل كوبا، وفي الجزء الشرقي من آسيا مثل فيتنام، وما حدث في العراق وأفغانستان وغيرها، وقد يكون على مستوى الدولة القُطرية، من استبداد في الدولة ذاتها، فتنمو جماعات متطرفة كما نراه حاليا في سورية، وسابقا في إيران، ولهذا نماذج عديدة من التطرف وتشكل جماعات متطرفة يؤدي بعضها إلى حروب أهلية، وانقسامات داخلية كما هو الحال الآن في اليمن والسودان.

فالذي يقود التطرف اليوم سياسات دول في الشرق والغرب، وغالب شعوبها مستقرة آمنة، يأتيها رزقها رغدا حيث تشاء، ولكنها تمارس في الخارج أبشع حالات التطرف ما لم تمارسه أي جماعات إرهابية.

على أن إطلاق مصطلح الإرهاب اليوم كثيرا ما يطلق على من يقف ضد هذا الاستبداد العالمي، ويحاول نيل حريته، وأخذ شيء من حقوقه الإنسانية، كما ترى سويدا معاني، وهي مديرة مؤسسة السلام والحكم العالمي في أمريكا، «أن العالم يعاني من أزمات متجددة وبشكل مستمر كالإبادة الجماعية، والتغيير المناخي وتهديده لحياة النباتات والحيوانات والبشر، فمليون صنف من النباتات مهددة بالانقراض، فضلا عن الأوبئة وتهديداتها، والأزمات المالية، والهولوكست النووي، ومشكلة اللاجئين والتشريد والفقر، والتعامل مع هذا الأزمات يكون عن طريق النفعية يزيدها ضررا تحت مسميات كالوطنية والأنانية والانعزالية والتحيزات الفئوية .... ولابد من حل أزمة الفيتو التي جعلت لخمس دول فقط من أصل مائة وثلاثة وتسعين دولة، حيث يملك أعضاؤها سلطة غير عادلة فيما يتعلق بالدول الأخرى، فالفيتو يجسد النفعية السلبية واستخدامها بشكل متكرر».

لهذا العالم اليوم، وبعد سبعة أكتوبر خصوصا، لم يعد يثق في مثل هذه الشعارات النبيلة، وهذا ليس في صالح السلم العالمي، عندما لا تكون هناك مساواة عالمية بين جميع الشعوب والأفراد في تحقيق النماء والعدالة والإحياء الإنساني، وعليه العالم مستقبلا أكثر عرضة لنمو جماعات متطرفة مضادة، حيث هيئة الأمم المتحدة لم تقم بدورها الإنساني النبيل المنشود منها، ولهذا يبتعد العالم شيئا فشيئا عن التعقل، ويمضي إلى فوضى عالمية بسبب هذه التناقضات، ووقوف هيئة الأمم المتحدة ذاتها مع مصالح دول الفيتو، لا مع الإنسان وحقوقه الذاتية.

وأمام هذه المفارقة بين الشعارات والمبادئ، وبين تناقض بعض السياسات، لا يعني بحال أن نكون طرفا مساهما في هذا التطرف والإرهاب العالمي، ولعل تجربة سلطنة عمان، ولا أقولها لكوني عمانيا، ولها ما يماثلها من التجارب القطرية في العالم، وقد كتبتُ حولها وعن غيرها، ومع هذا ممكن الالتفاتة بحق إلى التجربة العمانية، وقراءتها بإنصاف، كما يمكن تقويمها أيضا إيجابا وسلبا، وكما في لقاء لي مع الصحفي سهيل النهدي في جريدة عمان في تقرير حول هذا الموضوع، وقد نشر بعض منه، ومراد قولي أن عمان تنبهت إلى هذا منذ فترة مبكرة منذ بداية نهضة 1970م، وبقدر حربها للعنف والتطرف فكريا ومدرسيا وخطابيا؛ هي في الوقت نفسه أقرت مبدأ المواطنة على أساسي العدل والمساواة، وحاولت احتواء الاتجاهات اليسارية واليمينية التي تكونت لظرفية استبدادية كانت لها أجواؤها الخاصة، وقد حاولت الدولة الحديثة تجاوزها، وفي احتفال السلطنة بالعيد الوطني الرابع والعشرين أي 18 نوفمبر1994م في نزوى، كانت خطبة السلطان قابوس بن سعيد ناقدة للتفكير الإسلامي الحركي، ويغلب عليها الرؤية القرآنية الواسعة، فيفرق بين الثابت والمتحرك، والثاني فيه سعة، وفيه إشارة إلى الوضع السياسي أنه من المتحرك، حيث يقول في خطبته: «لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن بالحكمة والبيان، وضمنه المبادئ العامة، والقواعد الكلية للأحكام الشرعية، ولم يتطرق فيه إلى جزئيات المسائل التي يمكن أن تختلف باختلاف الزمان والمكان، وذلك ليتيح للمسلمين الاجتهاد في مجال المعرفة والفهم الديني، واستنباط الأحكام لما يستجد من وقائع وفقا لبيئاتهم والعصر الذي يعيشون فيه، مع الالتزام الدقيق في هذا الاستنباط بتلك المبادئ العامة، والقواعد الكلية»، وبين «أن تخلف المسلمين في العصور المتأخرة جعلهم يتحجرون على موروثهم من الآراء الفقهية، ورغم اختلاف الزمان لم يحاولوا التجديد في هذه الآراء» فأدى إلى «خمود الحركة العقلية، والنشاط الفكري» ، ونتيجته أنه «أفرز في السنوات الأخيرة نوعا [ما] إلى التطرف ... استغله البعض في ارتكاب العنف، وفي ترويج قضايا الخلاف التي لا تؤدي إثارتها إلا إلى الفرقة والشقاق والضغينة»، «فالتزمت في الفهم الديني لا يؤدي إلا إلى تخلف المسلمين، وشيوع العنف، وعدم التسامح في مجتمعاتهم، ويقرر «أن التطرف مهما كانت مسمياته، والتعصب مهما كانت أشكاله ومنطلقاته، والتحزب مهما كانت دوافعه ومنطلقاته؛ نباتات كريهة سامة، ترفضها التربة العمانية الطيبة التي لا تنبت إلا طيبا، ولا تقبل أبدا أن تلقى فيها بذور الفرقة والشقاق».

هذه الرؤية هي ذاتها اليوم في عهد النهضة المتجددة، مما أعطى شيئا من الاستقرار، وساهم في ذلك موقع عمان من الدول الأخرى في موقع الحياد والإحياء، فلم تكن شريكا في دمار أمم أخرى لأجل مصلحتها ونفعيتها، ولم تسمح في الوقت ذاته في التدخل في شؤونها الداخلية، هذا أعطى مرونة ليس على المستوى السياسي فحسب؛ بل حتى على المستوى المدني والعلاقات الاجتماعية، كذلك حافظت على التسامح والتعايش الداخلي، والذي ورثته جيلا عن جيل كما يقول المستشرق جون أوفنجتن الذي زار عمان عام 1693م: «إن هؤلاء العرب على قدر كبير من دماثة الخلق، يظهرون لطفا وكرما كبيرين للغرباء، فلا يحتقرونهم، ولا يلحقون بهم أذى جسديا، وهم على تشبثهم الثابت بمبادئهم، والتزامهم الراسخ بدينهم؛ لا يفرضون تلك المبادئ وذلك الدين على الآخرين، كما أنهم لا يغالون بالتمسك بها مغالاة تجردهم من إنسانيتهم، أو من حسن معشرهم، فالمرء يقطع في بلادهم مئات الأميال دون أن يتعرض للغة نابية، أو لأي سلوك فج» [كتاب عمان في عيون الرحالة البريطانيين، ص: 10].

كما حافظت عمان على الاستقرار المذهبي، وتنبهت لأي دعوات تدعو إلى العنف المذهبي والطائفي، وبأي شكل من الأشكال، لكنها لا يعني أنها لا تعاني من هفوات لطبيعتها البشرية، ومن تحديات لأنها داخل المنظومة العالمية ذاتها، وتتأثر بما يحدث في العالم، خصوصا مع الانفتاح المعاصر، والتأثيرات الخارجية، ولكن يحسب لها أنها حاولت تجاوز العديد بكل هدوء وسلمية، مع مراجعات مبنية على الرحمة والعفو والاحتواء، حتى لا تتولد ردات فعل سلبية، وغير محمودة، وهي اليوم أيضا بحاجة إلى مراجعات كغيرها من التجارب، ولكن تبقى تجربة مهمة يمكن أن تدرس في آلية الموائمة بين الإحياء الداخلي في تحقيق العدل والنمو وتوسعة الحريات بشكل أكبر، وبين الإحياء الخارجي في الحفاظ على السلم، وإحياء الأمم الأخرى، قربت أم بعدت، بدل الأنا الذاتي، والرغبة في تدمير الأمم والشعوب لأجل عظمة واهمة، ومصالح قطرية زائلة، وهذا أكثر ما يقود إلى العنف والتطرف والإرهاب في العالم، فإن كنا ضد الجماعات المتطرفة؛ فلنكن صادقين أيضا في الحفاظ على المجموع الإنساني، ومحاربة الاستبداد سياسيا ودينيا واجتماعيا، وتوسعة دائرة الحريات الفردية، والحفاظ على كرامة المواطن وحقه في المشاركة المجتمعية وإبداء الرأي، في أي بقعة من العالم، ولنكن صادقين في وقف هذه الإبادة في غزة اليوم، وفي غيرها من دول العالم، وإلا فهذه الدول المنادية بهذه الشعارات هي وهذه الجماعات التي تحاربها هي في الحقيقة سواء في ميزان العنف والإرهاب والتطرف، وقد يكون للجماعات ما يبرر ويشفع لها، عندما يتعلق بالظلم في أوطانها وشعوبها، ولا أبرر هنا التطرف والإرهاب أيا كان مصدره، ولكن لابد أن يكون المجتمع الإنساني سواء في تحقيق كرامته وإنسانيته، وعدم استغلال حقوقه وبشريته.