No Image
الاقتصادية

بلدان العالم الغني وعجوزات الموازنة

12 أبريل 2024
ترجمة: قاسم مكي
12 أبريل 2024

قبل عشرة أعوام أحكمت حُمَّى التقشف قبضتَها على وزارات المالية في بلدان العالم الغني. وكانت الحكومات تقوم بكلّ ما في وسعها لخفض عجوزات الموازنة حتى مع ارتفاع معدل البطالة وضعف النموّ الاقتصادي.

أما اليوم فالأمور مختلفة جدًا. معظم الاقتصادات حول الغرب في أوضاع جيدة؛ فالناس لديهم وظائف، ونمو أرباح الشركات قوي. مع ذلك تنفق الحكومات أموالًا تفوق إلى حدّ بعيد تلك التي تحصل عليها.

ليست هنالك حكومة أكثر تبذيرًا من الحكومة الأمريكية. ففي هذا العام من المتوقع أن يحقق أكبر اقتصاد في العالم عجزًا في الموازنة الحكومية (حيث يتجاوز الإنفاق إيرادات الضريبة) يزيد عن 70% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا مستوى لم يُسمع به في غير أوقات الانكماش والحروب.

لكن أمريكا ليست البلد المسرف الوحيد. فإستونيا وفنلندا في شمال أوروبا -وهما شحيحتان في الإنفاق- تحققان عجزًا كبيرًا في الموازنة. وفي العام الماضي كان العجز في إيطاليا مماثلًا لحجمه الكبير في 2010-2011م عقب الأزمة المالية العالمية خلال 2007-2009م.

كما ارتفع العجز في فرنسا إلى 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا معدل يفوق التوقعات. ففي الشهر الماضي دعا برونو لومير وزير ماليتها إلى المزيد من العناية في تخصيص الأموال «في كل جوانب إنفاقنا العام».

بعض البلدان أكثر تحفظًا، ففي العام الماضي حققت قبرص فائضًا في ميزانيتها. وتبدو اليونان والبرتغال (اللتان تقتربان من ضبط موازنتيهما) مثالًا للاستقامة المالية على الرغم من أنهما لا تزالان مثقلتين بديون ضخمة.

مع ذلك، الاتجاه العام واضح. حلَّلنا في مجلة الإيكونومست بيانات من 35 بلدًا غنيًا. ووجدنا أن البلد الوَسَطِي حقق فائضًا في الموازنة في الفترة 2017-2019م، لكنه شهد في العام الماضي عجزًا بلغت نسبته 2.5% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي. (البلد الوَسَطِي يُقصد به في هذا التقرير البلد الذي يحتل المرتبة الوَسَط رقم 18 في عينة البلدان الـ35 التي حلّلت الإيكونومست أوضاعها المالية: المترجم). كما كانت الاختلافات كبيرة أيضا بين مقاييس العجوزات الأولية (باستبعاد مدفوعات الفوائد) والعجوزات الهيكلية (باستبعاد تقلبات الدورة الاقتصادية).

هنالك عاملان يفسران هذا الإسراف في الإنفاق. أولهما يتعلق بالضرائب. فحصائلها حول بلدان العالم الغني مفاجِئة في ضعفها.

إيرادات ضرائب الدخل المستقطعة من الرواتب في أمريكا تراجعت بقدر طفيف في العام الماضي. وفي الأثناء هبطت ضرائب الدخل التي لا تُستقطع تلقائيًا بما في ذلك الضرائب على المكاسب الرأسمالية بنسبة 25%.

في بريطانيا حصيلة ضريبة المكاسب الرأسمالية أقل بنسبة 11% من أعلى مستوى لها مؤخرًا. وفي اليابان حصيلة ضريبة التقدير الذاتي لهذا العام المالي والتي تشمل بعض الضرائب على المكاسب الرأسمالية في سبيلها إلى أن تتراجع بنسبة 4%عن حصيلة العام الماضي.

يعاني جامعو الضرائب بسبب اضطرابات السوق في أواخر عام 2022 وأوائل 2023م؛ فشركات التقنية التي تدفع رواتب كبيرة استغنت عن موظفين، وهذا قلل من حصائل ضريبة الدخل. ومع هبوط أسعار الأسهم أصبح من الصعب على الوحدات العائلية والمستثمرين تحقيق أرباح من بيع الأسهم، هذا بدوره قلّص حجم المكاسب الرأسمالية. وفي العام الماضي قليلون أولئك الذين جنوا أموالًا من شراء المنازل بغرض بيعها من أجل الربح مع هبوط أسعار العقارات.

وكان العام سيئًا بالنسبة لكبار موظفي شركات الاستثمار في الأسهم الخاصة والذين كثيرا ما يحصلون على دخولهم في شكل عائدات استثمار بدلا عن الرواتب التقليدية.

العامل الثاني: إنفاق الدولة، ففي أعقاب مقاربة السياسة المالية التي أبدت بها الحكومات استعدادها لاتخاذ أية إجراءات ضرورية في التصدي لجائحة كوفيد-19 قللت الحكومات نوعا ما من تدخلاتها المالية ولكن ليس تماما.

ففي أستراليا ربما يتلقى كبار السن في دور الرعاية مساعدات مالية عند تفشّي جائحة كوفيد. وفقط في منتصف عام 2023م أوقفت ألمانيا برامج حماية الوظائف التي تم تطبيقها خلال الجائحة. ولا زالت أمريكا تعيد للشركات الصغيرة التي احتفظت بموظفيها أثناء الإغلاقات استقطاعات ضريبية كبيرة. وفي إيطاليا خرجت خطة بيئية أعدت دون تمحيص في عام 2020م عن السيطرة. (الخطة عبارة عن برامج حوافز ضريبية أطلق عليها «إيكو بونص» أو المكافأة البيئية: المترجم).

كانت الخطة تستهدف تشجيع ملّاك المنازل على جعل منازلهم «صديقة» للبيئة. وخصصت الحكومة حتى الآن دعمًا لهذه الخطة بقيمة حوالي 200 بليون يورو (10% من الناتج المحلي الإجمالي)، اسم أحد هذه البرامج «المكافأة الفائقة» طريف لولا أنه مفرط في الإسراف.

أصبح الساسة أيضا أكثر استعدادًا للتدخُّل وإنفاق المال لتصحيح ما يُتصوَّر أنها أخطاء. بعد اندلاع حرب أوكرانيا ارتفعت أسعار الطاقة إلى عنان السماء، وخصصت الحكومات في أوروبا حوالي 4% من الناتج المحلي إجمالي لحماية العائلات والشركات من آثارها.

تنفق الآن بلدان قليلة من بينها بولندا ودول البلطيق أموالا كثيرة على المدافع والجنود. ويريد الرئيس جو بايدن إعفاء أكبر قدر ممكن من الديون الطلابية قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر القادم.

إلى متى سيستمر «ضخ» هذا الإنفاق الحكومي السخي «لإطفاء المشاكل؟.

من أول وهلة يبدو وكأنه سيتواصل لفترة من الزمن؛ فالأسواق تشهد نموا قويا. وهذا ما سيعزز الحصائل الضريبية.

استدامة الدين الحكومي لا تتغير فقط بسبب ما يحدث لعجز الموازنة، فهي أيضا نتيجة للدين العام في مجمله والنمو الاقتصادي والتضخم وأسعار الفائدة، ومنذ نهاية الجائحة ظل التضخُّم مرتفعًا والنمو متينًا، وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة إلا أنها تظل منخفضة إلى حد معقول بالمقاييس التاريخية.

هذه الظروف وضعت الساسة في موقف مالي مواتٍ. فوفقا لحساباتنا في الفترة 2020-2023 كان في مقدور البلد الغني الوَسَطِي تحقيق عجز مالي أوَّلي (قبل حساب خدمة الدين) بحوالي 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي ذات الوقت خفض معدل دينه العام إلى الناتج المحلي الإجمالي. وكانت القيمة الاسمية للدين ستزداد لكن الاقتصاد بفضل التضخم كان سينمو بقدر أعلى.

ثمة قلة من البلدان التي واجهت أوضاعًا أكثر إيجابية، فمعدل دين إيطاليا هبط بحوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي من ذروته في عام 2021م على الرغم من (تساهل) سياستها المالية. كما تراجع معدل فرنسا أيضا. واليونان التي جمعت بين أوضاع اقتصادية إيجابية وسياسة مالية متشددة شهدت هبوطًا في معدل دينها إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة مذهلة بلغت 50%.

لكن ذلك يتغير، فأسعار الفائدة لا تهبط حتى الآن فيما يتراجع النمو الاقتصادي والتضخم. وهذا يزيد من صعوبة ضبط الحكومات لموازناتها وإدارة ديونها بفعالية؛ (لحاجتها إلى تخصيص المزيد من الموارد لخدمة الدين: المترجم).

مثلا الموقف المالي الأوَّلي للحكومة الإيطالية (باستبعاد مدفوعات الفائدة) والمتسق مع معدل دين مستقر انخفض من عجز بنسبة 1% إلى الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي إلى فائض بنسبة 2% هذا العام وفقًا لحساباتنا.

أمريكا في موقف مماثل تمامًا، فالمزيد من التراجعات في التضخم وتباطؤ النمو أو ارتفاع أسعار الفائدة يعني أن الحكومات ستجد صعوبة أشد في تثبيت ديونها.

لذلك لا غرابة في أن الحديث عن تقليص العجز بخفض الإنفاق وزيادة الإيرادات أصبح أعلى صوتًا.

فالحكومة الإيطالية تعتقد أنها عما قريب سيوبِّخها الاتحاد الأوروبي على موقفها. وفي بريطانيا يَعِد حزب العمال المعارض والذي يأمل في تولّي السلطة قريبا بالاستقامة المالية. وتتحدث الحكومة الفرنسية عن تخفيضات في الإنفاق على الصحة وفوائد البطالة. وأمريكا هي البلد الناشز. ففي بلد أكبر اقتصادٍ في العالم موضوع النقاش لم يتغير.

قبل الانتخابات يطلق دونالد ترامب وأيضا جو بايدن الوعود بتخفيضات ضريبية لملايين الناخبين. لكن المنطق المالي لا يرحم، فبصرف النظر عن تفضيلاتهما يجب أن ينتهي عهد الساسة الذين ينفقون بلا قيد.