إلى أي حدّ يمكن أن يتراجع الدولار؟
لا شك أن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بتغييره الجذري لنظام سعر الصرف العالمي هو الأشبه بدونالد ترامب في فترته الرئاسية الثانية.
قرار نيكسون بتعليق قابلية تحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب يوم 15 أغسطس1971 قلب النظام النقدي العالمي رأسا على عقب. وكان نذيرا بعقد كارثي قادمٍ من سِماته ارتفاع التضخم وانخفاض النمو واضمحلال قوة الدولار مع تخلي البلدان الأوروبية عن ربط عملاتها بالعملة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن الفصل الأخير لم يُكتب بعد عن سياسات ترامب الاقتصادية العالمية إلا أن حالة البلبلة وانعدام اليقين التي أثارتها حرب رسومه الجمركية توحي باحتمال كبير في تحول الدولار والتضخم والنمو إلى خسائر (ضحايا) مجدَّدا. وهذه المرة كتلة الرينمينبي هي التي ستنفصل عن روابطها الوثيقة بالدولار مع اكتساب كتلة اليورو الموجودة سلفا حصة سوقية على حساب الدولار. (كتلة الرينمينبي تشمل الصين والبلدان العديدة التي هي الشريكة التجارية الرئيسية لها خصوصا في شرق آسيا ولكن أيضا في أمريكا اللاتينية وإفريقيا).
إلى ذلك شرعت العملات المشفرة في إضعاف تفوق الدولار في اقتصاد الظل والذي ربما يمثل ما يصل إلى 20% من الدخل العالمي. (يُعرف اقتصاد الظل أيضا بالاقتصاد السري أو الخفي ويشمل أنشطة مشروعة ولكن غير مسجلة إلى جانب الأنشطة المخالفة للقانون كالتهريب وتجارة المخدرات- المترجم.)
للإنصاف، نيكسون وترامب كلاهما كانا يواجهان تحديات يتعرض لها الدولار حتى قبل أن يقررا، كل منهما بطريقته الخاصة، تقويض النظام السائد.
عندما صار نيكسون رئيسا في عام 1969 كان الدولار في ذروة مجده على مدى 25 عاما ومنذ أن وافق الحلفاء على إطار جديد لسعر الصرف في اجتماع تاريخي انعقد عام 1944 في بريتون وودز بولاية نيوهامشير الأمريكية. قاد ذلك الاجتماع أيضا إلى إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. واشتُهر عن جون مينارد كينز الموفد البريطاني إلى الاجتماع اقتراحه بتبني عملة فوق قومية أطلق عليها اسم (البانكور) كبديل للدولار. ولكن اقتراحه هزم بواسطة الأمريكيين الذين كانوا يملكون كل أوراق اللعبة (يتحكمون في الموقف) نظرا إلى تفوق الاقتصاد الأمريكي على كل الاقتصادات الأخرى بنهاية الحرب العالمية الثانية.
بدلا عن ذلك، وضع نظام بريتون وودز الدولار في مركز دائرته وطلب من كل العملات الأخرى في النظام ربط أسعار صرفها بالعملة الأمريكية. وكانت واشنطن حرة في إدارة السياسة النقدية على النحو الذي يحلو لها مع تحفظ واحد وكبير. فإذا أرادت البنوك المركزية الأجنبية أو وزارات المالية تقديم موجوداتها الدولارية (معظمها في شكل سندات خزانة تدفع فوائدا وليست عملة مادية) واستبدالها بالذهب عند سعر 35 دولار للأونصة على الولايات المتحدة الوفاء بذلك. ويجب ملاحظة أن جزءا كبيرا من العالم ظل خارج هذا النظام النقدي ويشمل ليس فقط البلدان الشيوعية كالصين والاتحاد السوفييتي ولكن أيضا الكثير من بلدان العالم النامي.
نجح هذا الترتيب بشكل لافت على الرغم من الحاجة أحيانا إلى إجراء تعديلات متواضعة في سعر الصرف إلى جانب أزمات الديون المتكررة في بريطانيا والتي استوجبت سلسلة من عمليات الإنقاذ المالي.
ازدهرت الاقتصادات الكبرى. لكن نظام ما بعد الحرب الذي يربط الدولار بالذهب كانت لديه مكامن ضعف عميقة. فمع نمو اقتصادات اليابان وبلدان أوروبا زادت كذلك حاجتها إلى موجودات احتياطية من الأصول المقومة بالدولار الأمريكي. لقد احتاجت إلى "قوة نيران" مالية للتغلب على المضاربين الذين قد يحاولون القضاء على ارتباط عملاتها بالدولار (بمعنى إنها كانت محتاجة إلى استخدام احتياطياتها من الدولار لشراء عملاتها والحيلولة دون ارتفاع سعر صرفها وبالتالي المضاربة فيها– المترجم.)
وعلى الرغم من أن حكومة الولايات المتحدة عموما ملزمة بضخ الدَّين إلا أن احتياطياتها من الذهب لم تشهد نموا بالوتيرة نفسها. وهذا ما كان يعني ضمنا أن دعم الذهب للدولار بدأ يضعف تدريجيا.
في الواقع لقد اشتُهِر عن روبرت تريفين أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل تنبؤه في شهادته أمام الكونجرس عام 1959 بأنه في حال فقدت الحكومات الأجنبية ثقتها في الدولار وشرعت في محاولة بيع موجوداتها من سندات الخزانة ستكون النتيجة شيئا يماثل "تدافعا كلاسيكيا من المودعين لسحب أموالهم من بنك يتداعى" وسيقضي ذلك على النظام النقدي.
احتاجت نبوءة تريفين إلى أكثر من عقد لكي تتحقق. أحد أسباب ذلك أن نظام بريتون وودز النقدي كان يعمل بشكل جيد لكل المشاركين الكبار ولم يكن أي أحد يريد أن يكون محفزا على تفككه. لكن بمرور الوقت بدأت عوامل كثيرة تقوض الثقة في النظام.
أولا، بدأت أسواق رأس المال العالمية تتَّسِع وسيولتها تزداد باطراد. وأوجدت جيشا كبيرا من المضاربين الذين يعملون لحسابهم الخاص وقد يتواطؤوا ضد الدولار.
ثانيا، وربما هذا أكثر أهمية، بدأت الولايات المتحدة تتعرض للتضخم والذي رغم اعتداله نسبيا إلا أنه كان مؤثرا تراكميَّا. فقد أضعف القوة الشرائية للدولار وجعل السعر الذي حددته الولايات المتحدة للذهب أقل باطراد من قيمته الفعلية في السوق. (بالمناسبة في يونيو الماضي بلغت قيمة أونصة الذهب أكثر من 3300 دولارا وهو ما يقارب مائة ضعف سعرها وفقا لنظام بريتون وودز.)
على الرغم من إغراء الفرار من الأصول الدولارية إلى الذهب، كانت الحكومات الأجنبية مترددة في المخاطرة بتقويض النظام والذي، بخلاف ذلك، كان مفيدا جدا لاقتصاداتها وشعوبها.
في الحقيقة بدأت بلدان عديدة خصوصا فرنسا استبدال دولاراتها بالذهب خاصة عندما اتضح أن الولايات المتحدة، تحت ضغط الإنفاق على برامج "المجتمع العظيم" التي ابتدرها الرئيس ليندون جونسون والتكاليف المتزايدة لحرب فيتنام، تعاني في منع التضخم من الارتفاع.
وهكذا كان قرار نيكسون بإطلاق رصاصة الرحمة على آلية بريتون وودز لسعر الصرف الثابت بمعنى ما وببساطة استسلاما للمحتوم. مع ذلك شكل توقيته صدمة خصوصا مع اعتقاد معظم الخبراء أن النظام قد يستمر لفترة أطول قليلا قبل أن يسقط.
بعد قراره بتعليق تحويل الدولار إلى ذهب والذي قاد في النهاية إلى التخلي عنه تماما أرسل نيكسون وزير الخزانة جون كونالي إلى روما لمواجهة نظرائه الأجانب الغاضبين. فقد خشوا من أن الولايات المتحدة بتخليها عن تحويل الدولار إلى الذهب اتجهت إلى تضخيم "قيمة" موجودات بلدانهم الضخمة من سندات الخزانة الأمريكية بشكل جذري. (وذلك ما حدث بالضبط خلال العقد التالي.) رد عليهم كونالي بقوله: "ربما الدولار عملتنا. لكنه مشكلتكم."
لسوء الحظ لم يدرك نيكسون أو كونالي أن التخلي عن تحويل الدولار إلى ذهب هو حقا مشكلة للولايات المتحدة أيضا. فسنوات السبعينيات كانت فترة صعبة جدا بالنسبة لها مع تباطؤ النمو بشدة واستقرار التضخم عند معدل يساوي رقمين عشريين (أكثر من 9%) بل وصل في لحظة ما إلى 14%.
في فترته الثانية يمضي ترامب في درب استنساخ العديد من مشروعات الاقتصادي الكلي خلال رئاسة نيكسون. تولى ترامب الحكم باقتصاد محلي كان مثار حسد العالم على الرغم من ارتفاع معدل التضخم في فترة ما بعد الجائحة. ثم جاءت حرب رسومه الجمركية. هذا إذا لم نذكر مجموعة كبيرة من السياسات الأخرى التي تهدد بتقويض هيمنة الدولار. تشمل هذه السياسات إضعاف حكم القانون وتجريف القوة الناعمة للولايات المتحدة وتقليص انفتاحها التجاري والحد من الهجرة ومهاجمة جامعات البحث من بين أشياء أخرى.
إلى جانب الرسوم طرح ستيفن ميران رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين لدونالد ترامب خطة لما يسمى اتفاق مارالاجو والذي تشمل إحدى مكوناته قبول الحكومات الأجنبية سندات "خصم" لمدة مائة عام لا تدفع الولايات المتحدة مقابلها أية فائدة حتى انتهاء مدة سريانها. وهو ما يمكن أن يرقَى إلى أن يكون تخلفا كبيرا عن سداد الديون السيادية.
بصرف النظر عن معدل الفائدة الذي تقرره الولايات المتحدة لسنداتها، ستخشى الحكومات الأجنبية عن حق من التضخم. تماما مثلما خافت عندما تخلى نيكسون عن معيار الذهب قبل خمس عقود.
لن تتحقق خطة مارالاجو على أرض الواقع في الغالب. سيقول عديدون إنها موغلة في تطرفها. لكن بالنظر إلى التقاليد الأخرى التي يحطمها ترامب ألا يوجد من ينصح البنوك المركزية الأجنبية التي تحتفظ بتريليونات الدولارات في احتياطياتها من النقد الأجنبي باتخاذ موقف حاسم؟
في الواقع وإنصافا لترامب كانت هيمنة الدولار تتآكل عندما عاد إلى الحكم. وكما أؤكد في كتابي الأخير "دولارنا مشكلتكم" بدأ فك الارتباط الصيني بالدولار على نحو جاد عام 2015 ثم تسارع في السنوات الأخيرة.
لكن مكامن الضعف الأعمق تأتي من الداخل. لقد أصبح مسار الدين الأمريكي غير قابل للاستدامة بشكل واضح مع الارتفاع الحتمي الآن لأسعار الفائدة في الأجل الطويل من مستوياتها المتدنية في فترة ما بعد الأزمة المالية. ومع عدم وجود رغبة تذكر في أي من الحزبين الجمهوري أو الديموقراطي لكبح الدين يشك المرء بشدة في أن يحدث أي شيء إلى أن تقع أزمة تدفع الناس لإدراك الأبعاد الكاملة للمشكلة.
اللافت بعد مهاجمة ترامب سياسة الإنفاق بالعجز والذي بلغت نسبته 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي أثناء رئاسة جو بايدن (وهو معدل قياسي في وقت السلم إذا استثنينا 2008 و2020 عند اندلاع الأزمة المالية العالمية وكوفيد-19) يبدو أن عجوزاته ستكون أعلى من 7% خلال الفترة المتبقية من رئاسته حتى إذا لم يحدث انكماش اقتصادي عميق أو صدمة أخرى بحجم الجائحة.
مع تجاوز مستويات الدين الأمريكي نسبة 120% من الدخل ستكون الموازنات في المستقبل بالغة الحساسية تجاه مخاطر ارتفاع أسعار الفائدة من مستوياتها شديدة التدني بعد الأزمة المالية. وهي مخاطر ليست هينة. فإذا انسحب الأجانب وهبط الطلب العالمي على أصول الولايات المتحدة سيرفع ذلك أسعار الفائدة ويجعل وضع الدين الأمريكي أقل قدرة على الاستدامة.
حدوث أزمة تشمل في الغالب انفجارا كبيرا آخر في معدل التضخم أو "إكراها" ماليَّا خانقا للنمو ليس حتميا. (الإكراه المالي يعني تنفيذ سياسات حكومية تفرض أسعار فائدة بطريقة مصطنعة وتكون في الغالب أقل من معدل التضخم- المترجم.) لكن احتمال نشوب هذه الأزمة يتعزز بشدة. ويبدو حلولها الآن أقرب مقارنة بالسنوات الخمس أو الست الأخيرة. لقد احتاج اقتصاد الولايات المتحدة إلى عشر سنوات لكي يستقر بعد نيكسون. هل سيَصِحُّ ذلك بالنسبة لترامب؟
كينيث روجوف أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد وكبير الاقتصاديين بصندوق النقد الدولي سابقا.
