وهم السلام ونفقه المظلم

30 مارس 2024
30 مارس 2024

أستحضرُ مشهدا لم يغادرْ ذاكرتي حدث معي في صيف 2017م بمدينة جلاسكو الأسكتلندية؛ إذ كنت أمشي في أحد شوارع جلاسكو التي تنبض بالحياة وتدب بحركة البشر، وشدّ انتباهي حيّز (ركن) على جنبات الشارع -يعجّ بالمارة- عليه طاولة يقف عندها رجل تحيط به لافتات تحمل عبارات تروّج للسلام العربي الإسرائيلي والدعوة إلى التعايش الفلسطيني الإسرائيلي برفقة أعلام لفلسطين والكيان الصهيوني ومنشورات تضجّ بمثل هذه الدعوات. لم أستطع كبح جماح فضولي في محاولة اكتشاف هذا الركن والحديث مع الرجل علّه يكون من جملة المتعاطفين مع القضية الفلسطينية؛ فبادرته بالسؤال عن هدفه ومعنى السلام المنشود، فانطلق في حديث يمتزج بألفاظ السلام وسبل تحقيقه وأهميته، وسألته عن معنى السلام في ظل وجود احتلال غير شرعي لأراضي شعب آخر سُلبت منه بقوة السلاح؛ فبدأت فرائصه تتغير؛ فنحا إلى أسلوب حوارٍ مغاير عن سابقه كالحرباء التي تغيّر لون جلدها حسب ظروف بيئتها المحيطة؛ فأطلق قبيح كلامه عن المقاومة الفلسطينية؛ ليحمّلها مسؤولية فقدان تحقق السلام المزعوم، وأكد بشكل لا يقبل التفاوض أن الأرض من الناحية التاريخية ملك لليهود مع تمسكه المتناقض بأهمية التعايش والسلام، وبالتالي لا شرعية للمقاومة المسلحة التي تنتهجها فصائل فلسطينية مثل حماس؛ فألقى كل أثقال الحقد بصوره اللغوية والتعابير الجسدية على حماس؛ فجعلته يكمل لأسأله بعدها عن شرعية الأرض قبل وعد بلفور المشؤوم، ومنطق أحقية الأرض لمجرد أن شعبا سكن فيها في حقبة غابرة من الزمن في حين أن الأرض الفلسطينية باتت -بشكل لا يقبل النقاش- جزءا من التاريخ والجغرافيا العربية التي تثبتها معالم المنطقة وآثارها، وسألته عن إدراكه للهمجية الصهيونية التي تمارس القتل والظلم والاستيطان منذ قبل عام 1948م -أيْ من قِبَل العصابات الصهيونية قبل تأسيس الكيان المحتل-، وعرضت عليه مشاهد من تاريخ هذا الظلم ومشروعات الإبادة والسرقة التي تمارسها عصابات الصهاينة وحكومتهم العنصرية قبل تأسيس حركات المقاومة الفلسطينية. فطن الرجل بعدها إلى إخفاقه في تبرير موقفه الهجومي المدعوم بادعاءات تخالف الواقع والتاريخ؛ فعاد إلى فلسفته في السلام وضرورة تحققها؛ فأخبرته أن السلام مطلب إنساني عادل لا ننكره إلا أنه لا يتحقق في ظل وجود ظلم واحتلال، وأن القضية برمتها سياسية أججتها أيديولوجيات فاقدة للمعنى الإنساني والديني -إشارة للصهيونية-.

احتدم جدل السلام العربي الإسرائيلي منذ سنوات طويلة، فكانت جمهورية مصر العربية أول الدول العربية التي أبرمت اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني في عام 1979م ما دعا دولا عربية كثيرة لمقاطعة مصر وطردها من جامعة الدول العربية عدا سلطنة عُمان -ومعها الصومال والسودان- التي رأت للحدث أبعادا دبلوماسية لا ينبغي أن تتداخل مع خلافات فرعية أخرى، وجاءت السنوات بعد هذه الاتفاقية لتأتي دول عربية أخرى -سبق أن خاضت خصومة مع مصر نتيجة اتفاقية السلام- توقّع اتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني لأسباب سياسية واقتصادية، ومع تصاعد موجة صناعة السلام العربي الإسرائيلي ثمّة من أعلن التطبيع مع الكيان الصهيوني بشكل علنّي، وهناك من كان يمهّد لعملية السلام دون الإفصاح الرسمي، وثمّة من تمسك بمبدأ السلام مقابل الأرض بعودة الكيان إلى حدود ما قبل 1967م وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. جاءت أحداث 7 أكتوبر 2023م لتكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير؛ فقلبت معادلة السلام المنشودة، وأظهرت بشاعة الكيان الصهيوني وعرّته أمام المجتمع الإنساني في العالم أكثر من أي سابقة مضت؛ لتؤكد أن أيّ مشروع للتطبيع والسلام مجرد وهم لا يستقيم مع أي معايير سواء كانت دبلوماسية أو سياسية أو اقتصادية، وأن الدخول في مشروع سلام مع كيان لا يعترف بحقوق الإنسان وكرامته سيكون بمثابة الدخول إلى نفق مظلم تعقيده يتجاوز تعقيد أنفاق غزة التي ضعضعت عمليات جيش الاحتلال. أكدت حرب غزة الحالية التي أثبتت بشاعة المحتل أنّ مشروع التطبيع مع هذا الكيان المحتل مغامرة لا تجلب إلا الوبال بجانب فقدانها للعنصر الأخلاقي، وما جاءت به وثيقة «صفقة القرن» تأكيد لفشل مشروع السلام المزعوم الذي يصطف قلبا وقالبا مع المصالح الصهيونية، ولمعرفة تفاصيل هذا المشروع الخادع أنصح بقراءة كتاب «خدعة القرن: أبعادها واستراتيجية مواجهتها» لمصطفى البرغوثي.

يفقد الكيان الصهيوني بشكل متسارع مؤيديه في العالم وشعبيته التي كان يستند إليها عبر مؤسسات تجارية وسياسية داعمة له؛ فباتت كثير من الشركات التجارية تعيد مغزى علاقتها بهذا الكيان ودعمها له الذي لم يسفر إلا إلى مضاعفة خسائرها المالية بسبب المقاطعة، وهنا يتبادر سؤال عن مستقبل هذا الكيان المحتل واستقراره السياسي والاقتصادي الذي أظهر تخبطا واهتزازا وتفاقمت أزمته المجتمعية والسياسية الداخلية، فأيّ مستقبل وفائدة يمكن أن تُجنى من تطبيع مع كيان مجرم فاقد لشرعيته وإنسانيته؟ إذا جئنا من الناحية الاقتصادية، فالوضع السياسي والمالي لهذا الكيان غير مستقر، ويدخل مراحل هشّة لم يسبق أن جربها من قبل، ومن الناحية التقنية لم يعد هذا الكيان الأقوى في تطوير التقنيات المتقدمة؛ فنمو السباق العالمي بين الدول في مجال ثورة التقنيات الرقمية ألغى معضلة الاحتكار التقني؛ فصار الجميع قادرين على بلوغ هذه التقنيات وتصنيعها بوجود الإرادة والكوادر البشرية القادرة.

لم تعدْ إسرائيل تحظى بقبول المجتمعات الإنسانية في العالم أجمع، ولم يعد أمام كثير من حكومات الدول الغربية المساندة لها خيارات مع ثورة شعوبها المناهضة لطغيان الاحتلال إلا حفظ ماء الوجه والبحث عن حلول تحفظ لها مكانتها السياسية مثلما فعلت كندا بقرار أغلبية برلمانها حظر إرسال السلاح إلى إسرائيل، وتبعتها في هذا القرار دول أوروبية أخرى، وأعلنت أيرلندا أنها ستنضم مع جنوب أفريقيا في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضد إسرائيل، ونلحظ تغيّر نبرة لغة الخطاب الأمريكي وإن كانت لا تعكس أفعالها الداعمة. وبدأت الصحف الغربية والإسرائيلية كذلك في التحذير من السقوط الأخلاقي لإسرائيل والخوف من تفاقم عزلتها -منها مجلة إيكونوميست «The Economist» الذي جاء عنوان «إسرائيل وحيدة» على غلاف مجلتها في عددها الصادر بتاريخ 23 مارس 2024 الذي تناولت فيه أزمة إسرائيل الحاضرة والقادمة بسبب جرائمها في حرب غزة- الذي سيتبعه سقوط سياسي واقتصادي نتيجة فقدان إسرائيل للدعم الدولي؛ فتتضح عبر كل هذه الأحداث وتبعاتها أن فرضية السلام وهم محض لا يقود إلا إلى نفق مظلم.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني