وقفات مع مؤشر الابتكار العالمي

15 يوليو 2025
15 يوليو 2025

انعقدت حلقة العمل التخصصية عن منظومة محاكاة المؤشرات الدولية الموجهة لصانعي السياسات في مسقط خلال الفترة من 6 إلى 10 من شهر يوليو الجاري، وكانت بتنظيمٍ من المكتب الوطني للتنافسية، وهدفت إلى دعم الجهود الحالية الرامية إلى رفع أداء سلطنة عُمان في مؤشرات التنافسية، وفي مقدمتها مؤشر الابتكار العالمي. أتاحت حلقة العمل طرحاً علمياً هادفاً، ومليئاً بالأفكار، والرؤى الملهمة للاستئناس بها في توجيه مؤشر الابتكار العالمي نحو تشخيص واقع الأداء الابتكاري، واقتراح مسارات التحسين والتطوير. وأحدث الزخم المعرفي والفكري لحلقة العمل أثره الواسع في احتواء مجالات عديدة لم يسبق التطرق إليها، وتقديم قصص نجاح واقعية لإثراء المناقشات الحاسمة في الابتكار، وبذلك فإن الدروس الأساسية لحلقة العمل كانت أشمل من اكتساب المهارات العلمية في النمذجة ومحاكاة المؤشرات.

وقبل أن نتطرق إلى الرسائل الأساسية التي احتوتها حلقة العمل، دعونا نتوقف عند مؤشر الابتكار العالمي من حيث الماهيَّة والأهمية. حيث يُعد هذا المؤشر من المؤشرات ذات الطبيعة المركبة؛ فهو يرتكز على سبعة مؤشرات فرعية تمثل بيئة الابتكار؛ خمسة منها تعكس مدخلات الابتكار التي تقيس الممكنات الأساسية، وتشمل المؤسسات، والموارد المالية والبشرية لمنظومة التعليم، والبحث العلمي، والابتكار، والبنية الأساسية، وجاهزية التكنولوجيا، والأعمال، والاستدامة البيئية. ويرتبط اثنان من المؤشرات بمخرجات المعرفة والتكنولوجيا، والمخرجات الإبداعية. وتتفرع هذه الركائز السبعة بحسب التحديثات الراهنة لبنية المؤشر إلى (78) مقياساً تستقي بياناتها من مصادر معلومات متعددة، وعلى درجة من الموثوقية. ويُعد مؤشر الابتكار العالمي حجر الزاوية في التخطيط التنموي، وفي وضع السياسات الاقتصادية المتوافقة مع الاتجاهات المعاصرة للعلوم، والتكنولوجيا، والابتكار. وقد أكد المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة في قراره لعام (2019م) بشأن مبادرة «العلوم والتكنولوجيا والابتكار من أجل التنمية» على أهمية مؤشر الابتكار العالمي كمعيار موثوق به لقياس كفاءة منظومات الابتكار، وربطها بأهداف التنمية المستدامة.

وبالعودة إلى تقارير الأداء على مدى السنوات القليلة الماضية، فقد حققت سلطنة عُمان ارتفاعا في مدخلات الابتكار مع وجود الفروقات السنوية في الأداء العام، وهي ميزة مشتركة في معظم منظومات الابتكار الناشئة التي تتطلب الوقت والخبرة لبلورة المدخلات إلى مخرجات ذات قيمة مضافة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويكتسب مؤشر الابتكار العالمي اهتماما متزايداً على مستوى التنمية الوطنية الشاملة، إذ وضعت رؤية عُمان 2040 مستهدفات طموحة لترسيخ الابتكار المستدام والداعم للتحول إلى اقتصاد ومجتمع المعرفة. وأما من الناحية التاريخية، فقد بدأت سلطنة عُمان في رصد مؤشر الابتكار العالمي في عام (2017م)، ويتم تحليل نتائج تقرير المؤشر سنوياً بعمق وبشكل منهجي من أجل تصميم استجابات التحسين الملائمة لتحسين الأداء، ولكن لم يتم توظيف أدوات المحاكاة والنمذجة بشكل واسع. وهنا تظهر الأهمية الاستراتيجية لحلقة العمل في إدماج هذه الأدوات المتقدمة في التحليل الاستراتيجي لتقارير المؤشر، والاستفادة من البيانات النوعية في دعم واضعي الخطط وراسمي السياسات. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الدوافع التي شكلت الحاجة إلى تبني أحدث أدوات النمذجة في دعم الجهود القائمة حالياً في سياق تمكين المنظومة الوطنية للابتكار، ورفع الأداء تحقيقاً لمستهدفات رؤية عُمان على المدى المتوسط، والبعيد؟

إن أهمية مؤشر الابتكار العالمي لا يقتصر على دراسة واقع الابتكار في سلطنة عُمان، وتحديد ملامحه الرئيسية من حيث الفرص والتحديات، ثم رسم سياسات التطوير والتحسين عبر المقاييس المعتمدة للمؤشر، وبشكل مقارن مع دول العالم الأخرى، ولكن في الواقع هناك عدة دوافع استراتيجية؛ حيث يأتي الابتكار في مقدمة المحركات الدافعة للتقدم الاقتصادي القائم على المعرفة، وتعزيز القدرة التنافسية لسلطنة عُمان، كما أن تحقيق رؤية عُمان 2040 يتطلب توسيع نطاق الفهم التقليدي للابتكار ليتجاوز حدود المخرجات العلمية والابتكارية ويشمل الجوانب الاجتماعية، ومختلف نماذج الإبداع الثقافي وغير المادي تعزيزاً للدور الشمولي للابتكار في الاستجابة لاحتياجات التنمية على نحو شمولي ومستدام، وذلك مع مواكبة التطورات التكنولوجية، والاستفادة من التجارب الابتكارية للدول ذات الأداء المرتفع في مؤشر الابتكار العالمي من حيث دعم الأسواق الناشئة لاستيعاب مخرجات الابتكار، وبناء الجيل القادم من الباحثين، والمبتكرين، ورواد الأعمال، وبناءً عليه فإن تحسين الأداء في مؤشر الابتكار العالمي يتطلب تبني درجة عالية من التركيز الاستراتيجي.

إذن الحديث لم يُعد عن البحث عن مجالات ابتكار جديدة، بل عن مسارات ابتكارية مركزة ومغايرة للمشهد الراهن. فغياب التوجه نحو التركيز على الأولويات الاستراتيجية التي تتوافق مع الأجندة الوطنية في الابتكار يضاعف مخاطر التراجع في التصنيف، والابتعاد عن قائمة الريادة والتميز في الابتكار. وهذه النقطة هي أهم الدروس المستفادة من حلقة عمل محاكاة مؤشرات التنافسية، حيث أتاحت أدوات النمذجة فرص تحليل الفجوات بمنظور متعدد الأهداف، واقتراح سيناريوهات الاستشراف المستقبلي لأثر تنفيذ مبادرات التحسين على مستوى المؤشرات الفرعية، وكذلك على تصنيف الأداء الكلي، كما أن هذه الأدوات المتقدمة تُسهل على المخططين الاستراتيجيين عملية وضع معايير المفاضلة بين المؤشرات المتقاطعة، ومسارات تحقيق التوافق، والانسجام بين الأولويات لتعظيم تأثيرها الإيجابي المباشر وغير المباشر.

وكذلك أتاحت حلقة العمل المجال للاطلاع على مختلف التوجهات والمرئيات المتعلقة بالجهات المعنية بإدارة الابتكار في المحيط المؤسسي المحلي، مما أسس قاعدة لمعطيات الابتكار، والخبرات الوطنية القيِّمة. وهنا لا بد من وقفة للتأكيد على أهمية التعلم من تجربة المنظمة العالمية للملكية الفكرية في قياس الابتكار خلال جائحة كوفيد -19، حيث استحدثت (متعقِّب الابتكار العالمي)، وكان موجهاً لالتقاط اتجاهات الابتكار عبر ثلاثة محاور رئيسية شملت التمويل والاستثمار، ودرجة التقدم التكنولوجي، والأثر الاجتماعي، والاقتصادي للجهود الابتكارية في الحالات الاستثنائية للجائحة، وذلك من أجل تشكيل الصورة المتكاملة حول الأداء العالمي في ظل التقلبات الديناميكية لبيئة الابتكار. وهذه التجربة يمكن أن تستنسخ على نطاقات محلية أو إقليمية لتحقيق أهداف محورية في تحسين الأداء في مؤشر الابتكار العالمي مثل تجويد رصد البيانات، وتركيز الجهود في معالجة الفجوات الحاسمة، واغتنام الفرص الاستراتيجية من توظيف الميزة التنافسية في المنظومة الوطنية للابتكار.