هوامش على متن المونديال

29 نوفمبر 2022
29 نوفمبر 2022

رغم أن قطر دولة عربية صغيرة الحجم، فإنها استطاعت تنظيم بطولة كأس العالم التي ترهق حتى الدول الكُبرى، بما تتطلبه من إدارة محترفة تسيطر بدقة على التوظيف الأمثل لتفاصيل الأمور التمويلية واللوجستية، وغيرها. ولكن الدورة التي تجري الآن على أرض الدوحة، ليست كغيرها من بطولات كأس العالم، فهي الأكثر إثارة للجدال العالمي في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، بل في تصريحات كبار المسؤولين والشخصيات الشهيرة عبر العالم.

تنطوي البطولة الحالية على الكثير من المفاجآت، ويزداد التوتر بين اللاعبين والنقاد وجماهير الدول: تصعد فرق دول وتهبط أخرى في سلم تصنيف الفيفا، والأيام دول. خرجت قطر الدولة المنظمة للبطولة من المنافسة مثلما خرجت الفرق العربية تباعا وسيخرج ما بقي منها، رغم الأداء المتميز لبعضها؛ ببساطة لأنها ليست مؤهلة تماما في الوقت الراهن للمنافسة على البطولة (على الأقل في دورها النهائي أو قبل النهائي)، وذلك لأسباب يطول شرحها، ويعرفها المتخصصون في شؤون كرة القدم. ولكن كل هذه الأمور تتعلق بما يحدث على ساحة المستطيل الأخضر، وذلك هو ما أسميه «متن الحدث»، وأنا لا أريد هنا الخوض في هذا، وإنما فيما يقع وراء المتن.

ما أقوله هنا هو مجرد هوامش، ولكني أظنها أكثر أهمية من المتن ذاته: ذلك أن الهامش هنا يتجاوز كثيرًا هذا المتن (على الرغم من أهميته بالنسبة إلى جماهير كرة القدم، والمعلقين على المباريات، والنقاد الرياضيين)؛ إذ يمتد الهامش في هذه الدورة إلى مجال القيم الإنسانية من خلال الجدال حول تضارب القيم السياسية والثقافية والأخلاقية حول العالم. وهذا ما سوف أُلقي الضوء عليه من خلال الملاحظات التالية:

*سبقت البطولة حملات عنصرية ممنهجة من بعض الدول الغربية، بهدف التشكيك في جدارة دولة قطر -وعلى الأدق جدارة دولة عربية مسلمة- بتنظيم هذه البطولة ونيل هذا الشرف العظيم! وقد استُخدِمت أجهزة إعلام تلك الدول في الترويج لمسائل تقع خارج حدود البطولة الرياضية كما تعبر عن نفسها في النهاية على المستطيل الأخضر، من قبيل: قضايا حقوق المثلية الجنسية وحقوق الإنسان، بهدف تأكيد أن الثقافة الإسلامية هي ثقافة متخلفة بطبيعتها لا تراعي هذه الحقوق! صمدت قطر وواصلت تنظيم البطولة، بل حرصت على إضفاء الطابع العربي والإسلامي على روح هذه البطولة، بدءًا من أغنية البطولة المميزة، وحتى «الكود بار» داخل غرف الضيوف الذي يتيح التعرف على حقيقة الإسلام.

*انقلب السحر على الساحر؛ لأن الجدال الذي ثار عبر أجهزة الإعلام أدى إلى ظهور بعض الأصوات المهمة من داخل الغرب ذاته التي تنكر على الغرب نزعته العنصرية وازدواجية معاييره؛ إذ لم يحشد الغرب أي حملات في بطولة روسيا الأخيرة فيما يتعلق بالمآخذ التي يأخذها على روسيا في قضايا شبيهة. ومن أهم الشخصيات التي كشفت عن حالة العنصرية وازدواجية المعايير لدى الغرب: إنفانتينو -رئيس اتحاد الفيفا- الذي أكد في تصريحاته على ضرورة احترام ثقافات الشعوب غير الغربية، وهو ما ساهم في الترويج للثقافة والقيم العربية والإسلامية، وظهور أصوات تدعو إلى احترامها وتقديرها باعتبارها جزءًا جوهريًّا من هوية أصحابها. وبطبيعة الحال، فإن إنفانتينو لم يكن يهدف إلى هذا الترويج، وإنما كان يريد التعبير عن موقف نزيه إزاء شأن سياسي وثقافي وأخلاقي؛ ربما لأن جذوره -هو نفسه- كانت من طبقة المهمشين في قلب الغرب، ومن ثم فإنه كان مدفوعا بوعي عرف وعايش تهميش المركزية الغربية للآخر، والنظر إلى هذا الآخر من حيث مدى قرابته من هذا المركز الغربي الذي تتزعمه حتى الآن الولايات المتحدة الأمريكية، وهي زعامة بدأت تتخلل في الآونة الأخيرة (وهو ما سبق أن تناولت في مقالات عديدة بهذه الجريدة الرصينة). وربما كانت الأحداث المقترنة بهذه الدورة القطرية/العربية لحظة لها دلالتها في هذا الشأن.

*قد يرى البعض فيما أقول نوعا من الفانتازيا أو التصورات الخيالية عن أمور لا تتعلق بكرة القدم، وإنما تتعلق بمستقبل السياسة والثقافة والحضارة؛ ولكننا عندما نتأمل حجم جماهير كرة القدم حول العالم، فلا بد من أن نسلم بأن هذه الجماهير هي أكبر تجمع بشري يحدث حول العالم على الأرض وعبر الشاشات في الوقت ذاته؛ وبالتالي فإن هذه الجماهير الكونية تظل قابلة للشحن بتوجهات سياسية وثقافية، إلخ. ولقد ذكرت في مقالي السابق بعنوان «تأملات في أحوال كرة القدم» أن هذه التظاهرة الجماهيرية الكبرى في الدوحة -التي تزداد سخونتها في هذه الأيام- قد كشفت عن أن كرة القدم أصبحت الآن تتجاوز كثيرًا لعبة كرة القدم ذاتها، لتصبح مناسبة للتعبير عن مواقف الجماهير العريضة من شؤون العالم نفسه، بما في ذلك ما يتعلق بمسألة الهويات! ويكفي شاهدًا على ذلك ما حدث مؤخرًا بعد الفوز غير المتوقع لفريق السعودية على فريق الأرجنتين. احتفل السعوديون لتأكيد هويتهم أو حضورهم في المشهد العالمي من خلال فريقهم الذي يمثلهم على أرض الملعب، ولكن العرب احتفوا معهم في كل مكان باعتبار أن هذا الحدث يعبر عن المشاعر المقترنة بالهوية العربية الأكثر اتساعًا، بل رفعوا العلم الفلسطيني نصرةً لعدالة القضية الفلسطينية، وكأنهم بذلك كله يُعبِّرون بطريقة لا واعية عن رغبة قوية في إحياء هوية عربية جريحة. حينما تتعلق الرياضة بالجماهير العريضة، فإن هذا يعني قدرة الرياضة على التأثير في شؤون الحياة الأخرى، بما فيها السياسة.