هل لا يزال في مقدور الولايات المتحدة تنفيذ مشروعات علمية طموحة؟

06 أغسطس 2023
06 أغسطس 2023

ترجمة: قاسم مكي

هل الولايات المتحدة قادرة على تنفيذ مشروعات علمية عظيمة؟ هذا سؤال مثير للاهتمام ويدعو إلى التفكير وسط الضجة المثارة حول فيلم "أوبنهايمر" الذي يحكي عن تطوير أول قنبلة نووية للولايات المتحدة. (قصة هذا الفيلم الذي عُرض لأول مرة الشهر الماضي تدور حول عالم الفيزياء الأمريكي روبرت أوبنهايمر الذي لعب دورا أساسيا في تطوير أول سلاح نووي وتدشين عصر الذرة- المترجم)

اتجه الجدل حتى الآن وهذا ليس مفاجئا إلى التركيز على مخاطر الحرب النووية وكيف يمكن أن تتحول الابتكارات البارعة إلى أشياء خطرة.

لكن عند مشاهدتي الفيلم خطرت لي فكرة مختلفة عن سرعة وحجم الموارد التي ضخَّتها الحكومة الأمريكية في هذا المشروع. (مشروع مانهاتن لإنتاج أول قنبلة ذرية في أربعينيات القرن الماضي.)

بعد ثمانية عقود لاحقا تحاول واشنطن التغلب على تحديات جديدة. وهي لاتزال تنتج ابتكارات لافتة أحدثها يتعلق بالذكاء الاصطناعي أو برنامج السرعة الفائقة (وارب سْبيد) الذي أطلقته عام 2020 لتطوير لقاح كوفيد -19.

فقط في الأسبوع قبل الماضي تحدث العلماء في معهد كارنيجي للعلوم عن مبادرة لافتة أخرى. إنها إنشاء تلسكوب ماجلان العملاق في شيلي. لكن مثل هذه الإنجازات الكبيرة كما يبدو كثيرا ما تتحقق على الرغم من الحكومة الفدرالية وليس بسببها.

في حقبة أوبنهايمر كانت الحكومة الفدرالية على استعداد لإنفاق أي مبلغ من المال تقريبا على أي مشروع إذا اعتُبر مهمّا. فالرئيس روزفلت صادق بسرعة على تخصيص مبلغ أوَّلي بقيمة 500 مليون دولار ارتفع لاحقا إلى بليوني دولار.

اليوم تَلزم إجازةُ التمويل الفدرالي للبحث والتطوير في كل عام بواسطة التصويت في الكونجرس. وفي الشهر قبل الماضي على سبيل المثال قدم البيت الأبيض مشروع موازنته المقترحة لعام 2024 إلى الكونجرس. وفي حين من المرجح تمرير الموازنة السنوية المطلوبة للمؤسسة الوطنية للعلوم يُتوقَّع أن يقلِّص الجمهوريون المخصصات المطلوبة لنظيرها الطبي وهو المعهد الوطني للصحة.

هذا يترك الكيانات البحثية (الجامعات والمعاهد العلمية ومراكز الأبحاث الطبية) في وضع غير يقيني بشأن أوضاعها التمويلية في الأجلين المتوسط والطويل. قال لي أحد علماء الفلك الأمريكيين في الشهر الماضي "نحن نحسد أوروبا"، مشيرا إلى أن الوكالة الأوروبية للفضاء مُنِحت مخصصات تمويلية مضمونة لمدة 6 سنوات بواسطة البرلمان الأوروبي. وفي ذلك في مفارقة صارخة مع نظيرتها الأمريكية وكالة "ناسا".

إلى ذلك، دور الحكومة في البحث العلمي بدأ يتقلص. لكن تقريرا صدر مؤخرا عن مجموعة آسبن للإستراتيجية الاقتصادية يكشف أن الولايات المتحدة إجمالا تظل مهيمنة على موازنات البحث والتطوير العالمية نظرا إلى أن "إنفاقها على البحث والتطوير الذي تجاوز 700 بليون دولار في عام 2020 يفوق إنفاق كل من اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وفرنسا والهند وبريطانيا وروسيا مجتمعة".

لكن في حين تجاوز استثمار الشركات الأمريكية في البحث والتطوير ثلاثة أضعاف حجمه في الفترة بين 1990 و2020 ظل إنفاق الحكومة الفدرالية في الولايات المتحدة على البحث والتطوير ثابتا تقريبا. نتيجة لذلك لا يزيد الإنفاق الفدرالي الآن عن ثلث إنفاق الشركات (بعدما كانا متساويين تقريبا).

إذن في حين تنفق الدولة على حوالي نصف أبحاث العلوم الأساسية تموِّل الشركات نصف الأبحاث التطبيقية وكل التطوير التجريبي تقريبا. وأشارت الرابطة الأمريكية لتقدم العلوم في وقت سابق من هذا العام إلى أن الاستثمارات الحكومية بالولايات المتحدة في البحث والتطوير لاتزال تراوح مكانها فيما يستثمر الآخرون بكثافة". وذكرت الرابطة أن أمريكا تراجعت "إلى المرتبة الثالثة عشرة في العالم في كثافة البحث والتطوير الحكومي". إلى ذلك، يذهب على الأقل نصف مخصصات الموازنة العامة للبحث والتطوير إلى وزارة الدفاع و6% فقط إلى وكالة ناسا. وهذا يفسر سبب غيرة علماء الفضاء الأمريكيين من أوروبا.

هل هذا مهم؟ بعض الساسة الأمريكيين خصوصا أولئك الذين يميلون إلى حرية السوق وتقليص دور الحكومة في الاقتصاد سيقولون لا ليس مهما. فبعد كل شيء، صارت الشركات الأمريكية مهيمنة على المسرح العالمي بفضل إنجازاتها في مجال البحث والتطوير والتي كثيرا ما يكون وراءها رواد الأعمال. مثال لذلك اختراقات الذكاء الاصطناعي التي حققتها الشركات الناشئة مثل "أوبن أيه آي" وشركات التقنية العملاقة من شاكلة جوجل.

ما يفاقم قلق العلماء الأمريكيين في المجالات التي تقلُّ جدواها التجارية أن الأبحاث الأساسية كثيرا ما تتطلب استثمارا يستمر لعدة سنوات قبل أن تطرح ثمارها. وقادة الشركات الذين يدعمون المشروعات العلمية الطموحة من أمثال إيلون موسك هم الاستثناء وليسوا القاعدة.

من اليسير الدفاع من منظور اقتصادي عن مثل هذا الاستثمار بما أن عائدات الاستثمار العلمي الممول من الدولة ليست قليلة، حسب مجموعة الإستراتيجية الاقتصادية بمعهد اسبن

يقول بنيامين جونز المساهم في المجموعة "عمليا، نظام العلوم والابتكار مثل آلة يمكن أن يضع فيها المجتمع دولارا واحدا ويحصل على خمس دولارات أو أكثر".

وكما ذكر بيل جينواي الاقتصادي وأحد أعلام صناديق رأس المال المغامر "برزت الولايات المتحدة كمصدر مهيمن لتمويل مشروعات البحث والتطوير" في حقبة ما بعد الحرب، ممهدة بذلك السبيل للثورة الرقمية وثورة التقنية الحيوية". وبحلول أعوام الثمانينات ظهرت صناعة مهنية لرأس المال المغامر مستفيدة من المنصات التي أوجدتها دولة الولايات المتحدة". بكلمات أخرى كان وادي السيلكون ثمرة ازدهار البحث والتطوير الحكوميين في منتصف القرن العشرين.

هل يمكن أن يحدث هذا مرة أخرى؟ هل تهديد الصين يمكن أن يحفز الكونجرس على عدم التقتير في الإنفاق (مثلما كانت هي الحال مع ألمانيا في الأربعينات واتحاد الجمهوريات السوفيتية في الستينات)؟

إذا عدنا إلى "أوبنهايمر" فإن قليلين اليوم سيرغبون في أن يروا تهديد الحرب يظهر مرة أخرى أو جائحة جديدة. لكن السؤال الذي يواجه العلوم هو كيف يمكن للعلوم تأمين الاستثمار الذي تحتاج إليه دون أن تكون هنالك صدمة مكتملة الأركان.

• جيليان تيت محررة وكاتبة رأي في الفاينانشال تايمز