نظام عالمي تتجمع ملامحه ببطء !

25 سبتمبر 2023
25 سبتمبر 2023

قبل نحو 30 عاما ومع تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وتفكك حلف وارسو غريم حلف شمال الأطلنطي -الناتو- وانتهاء الحرب الباردة التي استمرت منذ أواخر أربعينات القرن الماضي حتى أول تسعيناته شهد النظام الدولي هزة عنيفة كادت تطيح به، لولا رغبة وحرص واشنطن والمعسكر الغربي من ورائها على الإبقاء عليه على أمل على استغلال هذا التطور الاستراتيجي للإجهاز إلى للأبد قدر الإمكان على الغريم الاستراتيجي للغرب -روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفييتي السابق- والانفراد بالسيطرة على العالم من خلال القوة والتحكم والتوجيه الأمريكي للشؤون العالمية وفق المصالح الأمريكية بالدرجة الأولى. ومن ثم لم يكن غريبا أن يبشر كثيرون وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي بوش الأب بمولد نظام عالمي جديد فور انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق وأن يتحدث كثيرون من السياسيين والمسؤولين وبعض المفكرين عن النظام العالمي الجديد وذلك من موقع المحاكاة لما يطرح من أفكارغربية يعززها الانتصار الغربي في الصراع التاريخي ضد الاتحاد السوفييتي السابق أكثر منها رؤى وأفكار ومصالح حقيقية تسهم في بلورة مصالح وعلاقات أكثر نضجا وقدرة على العمل وخدمة المصالح المشتركة بين الدول في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.

ومع إدراك طبيعة التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي خاصة على المستويات الإقليمية والدولية وبوجه أخص على المستويات التنظيمية والقانونية التي تنظم العلاقات بين الدول وواجباتها ومسؤولياتها حيال بعضها البعض وبما يخدم مصالحها المشتركة والمتبادلة وفق قواعد القانون والمواثيق الدولية، فإنه ليس مصادفة أن يستمر النظام العالمي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية قائما ومعمولا به حتى الآن برغم الحديث الذي لم ينقطع عن الحاجة إلى إقامة نظام عالمي جديد وإلى استيعاب التطورات التي طرأت على العلاقات وعلى النظام العالمي ومؤسساته.

ومع انعقاد اجتماعات الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبارا من الثلاثاء الماضي فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب المرتبطة بارهاصات النظام العالمي الجديد ومن أهمها ما يلي: أولا، ينبغي التفرقة بين الحديث عن الحاجة الحقيقية والمتزايدة لتطوير النظام العالمي الذي نشأ وفق ميثاق الأمم المتحدة المستمر منذ عام 1945 والذي لا تزال مبادئه وقواعده تمثل أسس العلاقات بين الدول ومكونات المجتمع الدولي، حتى الآن، وهي حاجة تتزايد ضرورتها، وبين الحديث عن ظهور نظام عالمي جديد له قواعده ومؤسساته وأدوات تسييره والقوى الدولية والإقليمية ذات التأثير الأبرز فيه وكيفية تأثير ذلك على القانون والمؤسسات ذات العلاقة بحل القضايا والمشكلات الدولية، وأن يكون ذلك مجسدا بشكل عملي ملموس وموضع اتفاق وتوافق عام بين نحو 200 دولة - تشارك 193 دولة في اجتماعات الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة المعقودة الآن في نيويورك - ومن المعروف على نطاق واسع أن الحديث عن نظام عالمي جديد، أو حتى عن مشروع إقليمي أو عالمي محدود أو فرعي كمشروع الحزام والطريق الصيني أو مشروع الممر بين الهند والشرق الأوسط الذي طرحه الرئيس الأمريكي خلال قمة العشرين مؤخرا في نيودلهي تأخذ عادة سنوات طويلة حتى تتبلور في شكل عملي قابل للتطبيق، بغض النظر عن حماس البعض أو دوافعه ومصالحه المباشرة وغير المباشرة، وكلما اتسع نطاق المشروع تعددت وتنوعت الصعوبات التي يمكن أن يتعرض لها، ومن هنا تعمد كثير من المنظمات الإقليمية وشبه الإقليمية إلى تحديد معايير وشروط العضوية فيها والأمثلة على ذلك عديدة ومتنوعة منذ عقود من الاتحاد الأوروبي إلى البريكس وغيرها. ومن المؤكد أن الأمر لا يعود فقط إلى كثرة عدد الدول التي تريد الانخراط في عضوية المنظمات الجديدة، ومن ثم تعدد الرؤى والمصالح والاحتمالات الكبيرة لتعارضها، وإنما تعود أيضا إلى تغير تلك المصالح والعوامل التي تتأثر بها ورغبة بعض الأطراف في المشاركة بأية صيغ جديدة من موقع الهيمنة أو لإثبات الوجود أو لمراقبة الأداء أو للحرص على تحقيق أهداف محددة معلنة أو غير معلنة في أحيان كثيرة، يضاف إلى ذلك أن الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية تلعب دورا مهما يصل أحيانا إلى حد إضعاف دول أو حتى تفتيتها وتقسيمها أو إغراقها في مشكلات اقتصادية وأمنية وبشكل متعمد لحرمانها من تحقيق أهداف محددة تساعد في تحقيق أهداف مهمة لها ولمستقبلها أو قد تؤثر بالسلب على مصالح طرف أو أطراف أخرى، وكانت منطقة الشرق الأوسط ولا تزال حافلة بالعديد من النماذج والتطبيقات العملية في هذا المجال.

ثانيا، إنه مع اليقين بأن نظاما عالميا جديدا يحتاجه العالم اليوم قبل الغد، وأن إدراك الحاجة إليه تزداد عمقا واتساعا في مختلف المجالات، إلا أن العراقيل تتسع وتكبر مع ازدياد تضارب مصالح الدول ومع ازدياد دور وتأثير العناصر والأطراف القادرة على التأثير في مصالح الدول الأخرى بشكل متزايد، ومنها الجماعات والمنظمات الإرهابية والشركات المتعددة الجنسيات وشركات الخدمات الأمنية والعسكرية، يضاف إلى ذلك حقيقة أن التغيرات التي طرأت على العلاقات الدولية وعلى مؤسسات النظام الدولي الذي تمثله الأمم المتحدة دفع في الواقع نحو مزيد من الاستقطاب والتكتل بين المجموعات الإقليمية وعلى نحو زاد من إمكانيات وفرص التنافس فيما بين مصالحها، وهو ما زاد من صعوبات التلاقي فيما بين مصالحها وليس العكس. صحيح أن الدول تدرك أهمية وقيمة تعزيز وتوسيع نطاق التعاون فيما بينها في المجالات غير السياسية أو في المجالات الوظيفية، ولكن الحرص على حماية المصالح الذاتية أو توسيعها على حساب مصالح أطراف أخرى يزيد في الواقع من فرص واحتمالات الصراع والتنافس ومن ثم تعارض الإرادات واللجوء إلى تكتيكات التعطيل العديدة والمعروفة في مجال العمل الدولي متعدد الأطراف وهو أمر معروف، وحدث ويحدث عربيا وإقليميا ودوليا. وفي ضوء ذلك أيضا وبرغم المكانة التي حظيت بها الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي في مرحلة القطبية الأحادية بدعم من حلف الناتو إلا أن سيطرة أمريكا تتآكل في الواقع ويتدهور تأثيرها بشكل متزايد رغم خطط واشنطن للدفاع عن مكانتها بكل السبل وبشكل معلن منذ فترة حكم أوباما، وفي هذا الإطار ازداد الخلاف بين واشنطن وبكين ويزداد بالفعل مع النشاط المتزايد والتوسع في عضوية مجموعة بريكس اعتبارا من يناير القادم. ومع ازدياد حدة الخلافات بين القوى الكبرى المؤثرة في عالم اليوم سواء حول الحرب في أوكرانيا أو حول الأمن الغذائي أو حول مستقبل التسلح النووي والتغير المناخي أو حول مستقبل حلف الأطلنطي والعلاقات بين روسيا والصين وبين العالم وحول مستقبل الأمم المتحدة وحول كيفية حل أزمة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية وحول سبل تحقيق حرية التجارة العالمية وتحقيق السلام والأمن والاستقرار والتخلص من التهديدات الإرهابية وغيرها تبتعد في الواقع فرص الاتجاه نحو بناء نظام عالمي جديد برغم ازدياد الحديث النظري عن الحاجة إليه وإلى أهمية تحقيقه. وإذا كانت عمليات التكتل تزداد على المستويات الإقليمية في مناطق العالم فإن هذا التوجه لا يؤدي إلى تسهيل الالتقاء والتكامل بين مختلف مناطق العالم التي تحتاج إلى توافر إرادات سياسية متوافقة وراغبة ومؤمنة بأهميتها لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة، ولكن في ظل الأوضاع والصراعات والتهديدات بشن الحروب والاستمرار فيها فإن الحديث عن نظام عالمي جديد أو عن تطوير لمؤسسات النظام الحالي لتحقيق مصالح قوى محددة لن يكون أمرا مفيدا خاصة وأنه كانت قد قدمت مقترحات ومشروعات علمية ومدروسة جيدا خلال تولي كوفي عنان وبطرس غالي لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة ولم تر النور.

وبالنظر إلى التأثير الكبير للقوى الدولية الكبرى فإن فرص ظهور نظام عالمي جديد سينتظر بالضرورة سنوات عديدة قد تمتد إلى عقود ولا يقلل من ذلك الإدراك المتزايد لسرعة الوصول إليه إذ أن هناك مسافة زمنية كبيرة بين الفكرة وبين إرادة تنفيذها على صعيد العمل الدولي أو الإقليمي وبالتالي يظل الحديث عن نظام عالمي جديد مجرد رغبة لبعض الساسة أكثر منه إرادة حقيقية في الواقع. فالإرهاصات لا تفيد إلا إذا عبرت عن اتجاه وإرادة سياسية قوية وشاملة فهل يتوفر ذلك؟.