ندوة «عُمان» وإعادة كتابة تاريخ الصحافة

20 ديسمبر 2022
20 ديسمبر 2022

نجحت الندوة التي نظمتها وزارة الإعلام الأربعاء الفائت، احتفالا باليوبيل الذهبي لصحيفة عُمان، نجاحا كبيرا على مستوى التنظيم، والحضور، وأوراق العمل، والشهادات الحية التي قدمها صحفيون أفنوا حياتهم المهنية في محراب الصحافة، والعمل في الصحيفة ورفع شأنها، وأدوا أدوارهم التاريخية كقادة رأي على أكمل وجه، وقدموا رسالتهم الإنسانية في تثقيف المجتمع وتحقيق أهداف الصحيفة.

يبدو هذا النجاح طبيعيا في ظل ما توافر لهذه الندوة من إعداد جيد على مستوى الضيوف، وأوراق عمل متميزة، ومشاركات نادرة من أعلام الصحافة العمانية وصحيفة عُمان على وجه التحديد الذين قدموا شهادات، يجب أن توثق، عن مسيرة عملهم في الصحيفة، والسياقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي أثرت في إنجازهم المهني الفردي وإنجازات الصحيفة على جميع المستويات. ولحسن الحظ كان التاريخ حاضرا وبقوة في هذه الندوة سواء في الاختيار الموفق لعنوانها ليكون هو نفس عنوان مقالها الافتتاحي الأول الذي تصدر صفحتها الأولى منذ نصف قرن «هذا البلد وهذه الجريدة»، أو في المقدمات التاريخية الموجزة التي بدأ بها رؤساء الجلسات ومقدمو أوراق العمل مداخلاتهم، أو في الشهادات التاريخية التي قدمها عدد ممن عملوا في الصحيفة سواء في بداية صدورها أو في مراحل أخرى من تاريخها الطويل.

في نهاية الندوة كان السؤال الذي يدور في ذهني، وقد عاصرت جزءا من حاضر صحيفة عُمان منذ قدومي إلى سلطنة عمان في العام 2004، هو: هل لدينا تاريخ مفصل وموثق لتاريخ هذه الصحيفة العريقة، يوثق ظروف نشأتها والإمكانات البشرية والمادية التي بدأت بها، وتطور استخدامها لفنون التحرير والإخراج الصحفي وتطور الصناعات المغذية لها مثل الطباعة، والإعلان، والتوزيع، والإدارة، والأهم يسجل تطور خطابها في الشؤون الوطنية والإقليمية والعالمية، ويوثق مواقفها واتجاهاتها من أهم الأحداث والقضايا التي عاصرتها؟ ومن خلال اطلاعي على التراث العلمي الذي تم إنتاجه سواء داخل أو خارج سلطنة عمان، ومن جانب باحثين عمانيين أو غير عمانيين، أستطيع أن أقول وبدرجة ثقة كبيرة إن هذا التاريخ الشامل للصحيفة وكذلك لغيرها من الصحف العمانية والصحافة في عُمان بوجه عام لم يكتب ولم يتم تقديمه بعد، وأن كل ما لدينا منه، رغم مرور أكثر من خمسين عاما من عمر معرفة سلطنة عمان بالصحافة الحديثة، وما يقارب من خمسة وثلاثين عاما على تأسيس أول مدرسة لتعليم الصحافة في عُمان، المتمثلة في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس، لا يخرج عن كونه مقدمات تاريخية تعريفية موجزة تعتمد على ما تنشره هذه الصحف عن نفسها في زاوية «من نحن» على مواقعها الإلكترونية، وكذلك ما يتم إعادة إنتاجه كل عام تقريبا في الكتاب السنوي الذي تصدره وزارة الإعلام، بالإضافة إلى معلومات جزئية اعتاد الباحثون في الصحافة على تناقلها في بحوثهم التي لا تستهدف التأريخ للصحافة.

وبالإجمال يمكن القول إننا ما زلنا نفتقد إلى تاريخ علمي جامع للصحافة العمانية ولصحيفة عُمان على وجه التحديد. نعم لدينا شذرات تاريخية متفرقة تتناول بعض رواد العمل الصحفي الذين عملوا في الصحيفة، وتحليل لبعض مواقفها واتجاهاتها، ولكن ضرورات التاريخ والأجيال القادمة تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك. تحتاج إلى جمع هذه الشذرات معا، وكتابة أو على الأقل إعادة كتابة تاريخ صحيفة عمان، وتاريخ الصحافة في عُمان بوجه عام.

من المهم أن ندرك في هذه المرحلة التي توافرت فيها التقنية الرقمية التي تحفظ لنا التراث الصحفي وتوافر فيها الباحثون في الإعلام والصحافة أن تاريخ الصحافة أصبح معلما من معالم التاريخ الحديث والمعاصر، كونه لا ينفصل عن التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي في المجتمعات الحديثة، ويتناول تاريخ الظواهر الصحفية العامة، وحياة الصحف، والصحفيين، والاتجاهات والمواقف الصحفية. ويمثل تاريخ الصحافة جزءا أساسيا من التاريخ القومي الحديث والمعاصر لأي دولة، ولم يعد ممكنا أن يؤرخ للتطور السياسي والاجتماعي والثقافي إلا إذا اشتمل التاريخ على الصحافة ووسائل الإعلام. وقد استقل تاريخ الصحافة كتخصص إنساني وإعلامي قائم بذاته بعد إنشاء مدارس تعليم الصحافة وكليات الإعلام في مختلف أنحاء العالم، تلك المدارس التي بدأت نشاطها الأكاديمي بالتركيز على المقررات الخاصة بتاريخ الإعلام والصحافة، ثم تطورت لتشمل جميع فنون الصحافة والإعلام. ولا يقتصر الأمر في بعض الدول المتقدمة على تعليم تاريخ الصحافة كمقرر ضمن مقررات الصحافة، ولكنها تخصص له أقساما علمية كاملة تجمع بين أساتذة الصحافة وأساتذة التاريخ والمؤرخين، ومراكز بحثية، ودوريات علمية محكمة، وكراسي بحثية، ومتاحف، ومنح دراسية، بالإضافة إلى الجمعيات المهنية التي تضم الباحثين والمهتمين به، والمؤتمرات والندوات العلمية.

وفي العالم العربي، يعود تدوين تاريخ الصحف والصحافة في مصر إلى ما قبل إنشاء المدرسة الأكاديمية الأولى لتعليم الصحافة في عام 1939 في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا)، إذ ظهرت بعض الكتب التي تسجل تاريخ تكوين الصحف العربية وترصد تطور بعض المجلات. وحدثت الطفرة الكبرى في التأريخ للصحافة المصرية مع إنشاء معهد التحرير والترجمة والصحافة بجامعة القاهرة، ثم تحوله إلى قسم بكلية الآداب، ثم إلى معهد الإعلام، وأخيرا كلية الإعلام بجامعة القاهرة. وقد ظل تاريخ الصحافة هو المجال الأكثر ضخامة في بحوث الإعلام في مصر لفترة طويلة من الزمن.

ولعل السؤال الذي يطرحه دارسو الصحافة يدور غالبا حول العائد الأكاديمي لهذا التخصص، وعائد تدريسه كمقرر تعليمي في أقسام الصحافة والإعلام بالجامعات؟ وقد اكتسب هذا السؤال أهمية في الفترة الحالية نتيجة التركيز المبالغ فيه في أقسام وكليات الإعلام والصحافة على المقررات الفنية التي تستهدف إكساب الدارسين المهارات الإعلامية الأساسية.

والواقع أن إدراك أهمية تاريخ الصحافة يتطلب أول ما يتطلب تقديم هذا التاريخ للدارسين والمهتمين بالصحافة، كما يتطلب عرض التراث الأكاديمي الضخم في هذا الفرع المهم من فروع الدراسات الصحفية. ويمكن القول إن الذين يشككون في جدوى وأهمية تاريخ الصحافة ليست لديهم دراية كافية بهذا التاريخ، ولذلك ينظرون إليه على أنه حقل ثانوي من حقول الدراسات الصحفية، بل ويمكن الاستغناء عنه. ونتيجة لذلك أصبح البحث في تاريخ الإعلام من المجالات الراكدة في البحث الإعلامي العربي في الفترة الحالية، ويحتاج إلى مزيد من الدراسات التي تبعث به الحياة.

يقول المؤرخ الآن نيفينز: «إن افتقار تاريخ الصحافة إلى تاريخ جيد للصحف يرجع إلى أن الأشخاص القادرين على كتابة هذا التاريخ، وهم الصحفيون أنفسهم والباحثون في الصحافة، يقعون في حب هذه الصحف، وبالتالي يفقدون الموضوعية اللازمة لكتابة تاريخ حقيقي ونقدي للصحافة». لقد أصبح لدينا في سلطنة عمان كل مقومات كتابة تاريخ علمي نقدي لوسائل الإعلام بشكل عام والصحافة على وجه التحديد. لدينا الصحفيون والإعلاميون المستعدون لمشاركة شهاداتهم التاريخية مع الباحثين، ولدينا التراث الصحفي الورقي والرقمي المحفوظ جيدا، ولدينا الباحثون الذين يجمعون بين تخصصي التاريخ والصحافة. كل ما نحتاجه هو مزيد من الاهتمام بهذا المجال البحثي البيني، من جانب المؤسسات الإعلامية والصحفية، والمؤسسات القائمة على الثقافة، وفتح الطريق أمامه ليكون مجالا للتنافس على الجوائز الوطنية الرفيعة بين الباحثين الجادين، وتخصيص منح دراسية فيه، وتقديم كل صور الدعم المادي وغير المادي لإعداد بحوث ودراسات علمية حول تاريخ الصحافة في سلطنة عمان.

إن تاريخ الصحافة -في تقديري- إذا فهمناه جيدا هو تاريخ الوطن بانتصاراته وإنجازاته. وإذا كانت الصحافة كما يقال عنها «مرآة صادقة للمجتمع الذي تصدر فيه»، فإن تاريخ هذه الصحافة هو الذي يحفظ هذه المرآة للأجيال القادمة، ويظل هو المستودع الضخم لذاكرة الأمة.