من يختطف موقف الآخر.. أوكرانيا أم الغرب؟
اعتادت الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة بوجه خاص، والدول الأخرى ذات التطلعات للتأثير في دول غيرها بوجه عام، العمل والسعي بوسائل مختلفة ومتنوعة من أجل بناء علاقات طيبة وقوية بقدر الإمكان مع قيادات الدول ذات الأهمية بالنسبة لها ولمصالحها في الحاضر والمستقبل، ولا يقتصر الأمر على شخص رئيس الدولة المستهدفة بالطبع، ولكنه يمتد عادة إلى مجموعة الشخصيات ذات التأثير في صنع القرار بشكل أو بآخر، ويظل من يشغل موقع رئاسة الدولة، ومن قد يصلون إلى مواقع مؤثرة فيها في مقدمة اهتمامات تلك الدول، وبوسائل مباشرة وغير مباشرة بالطبع وعلى امتدادات زمنية غير قصيرة، وذلك من منطلق محدد وهو أن مواقف وسياسات الدول المستهدفة إنما يحددها ويعبر عنها في النهاية رئيس الدولة ومجموعة القيادة المحيطة به التي تشغل عادة مواقع تنفيذية وتشريعية وأمنية واقتصادية ومالية وإعلامية مؤثرة بشكل أو بآخر. فالتأثير في هذه الشخصيات وفي رؤاها وفي كيفية حسابها لمصالحها الذاتية والوطنية، يؤثر في النهاية في بلورة وتحديد مواقف دولهم وخياراتها في الظروف المختلفة. وعلى ذلك تتحمل القيادات في النهاية مسؤولية خاصة، كبيرة ومباشرة، في تحديد سياسات دولها وترتيب أولوياتها ودفعها في مسارات محددة إزاء التطورات المختلفة، سواء كانت داخلية أو إقليمية أو دولية وفق التحديات التي تواجهها، وما تراه محققًا لمصالحها ومصالح دولها حسب رؤيتها لذلك بالطبع، بكل ما يترتب على ذلك من مسؤوليات تتحملها تلك القيادات حال دولها ومصالح شعوبها في الحاضر والمستقبل. وبالنسبة للحرب في أوكرانيا، فإنه يمكن الإشارة باختصار إلى عدد من الجوانب من أبرزها ما يلي:
أولا: إن اختطاف طرف لمواقف طرف أو أطراف أخرى، سواء كان ذلك على الصعيد الداخلي في دولة ما، أو على الصعيد الإقليمي في منطقة ما، أو على الصعيد الدولي، ونماذجها كلها موجودة ومعروفة في منطقتنا العربية والشرق أوسطية، لا يعني دومًا تسيير أو توجيه ذلك الطرف لمواقف الطرف أو الأطراف المستهدفة بشكل تام أو كامل باستمرار، أو تحت كل الظروف، ولكنه يعني قدرة ذلك الطرف على التأثير الكبير في مواقف الأطراف المستهدفة حيال الكثير من التطورات وعلى نحو ملموس، وهو ما يطلق عليه في بعض الأحيان اختطاف الدولة أو الجهة المؤثرة لموقف الطرف أو الأطراف المستهدفة، وعلى نحو يحد من قدرتها على الحركة أو الفعل المستقل، حتى لو أكدت تلك الأطراف المستهدفة أنها تتخذ مواقفها وتمارس سياساتها باستقلالية تامة وحسب مصالحها وهو أمر شديد الأهمية لها، خاصة على الصعيد الإعلامي. وفي أوكرانيا على سبيل المثال، فإن الرئيس زيلينسكي جاء إلى السلطة بمساندة غربية وأمريكية كبيرة، لتبنيه والتيار الذي يمثله، سياسات مناوئة ومعادية لروسيا بشكل واضح ومباشر ومن منطلق شوفيني دعا موسكو إلى تسميته «بالتوجه النازي الجديد المعادي لروسيا» وللمواطنين الأوكرانيين من أصل روسي المقيمين في أوكرانيا، على حد وصف موسكو لذلك. وفي ظل الصراع والتنافس التقليدي بين روسيا الاتحادية والغرب، فإن أوكرانيا تحت حكم زيلينسكي تمثل موقعًا متقدمًا ضد روسيا، بحكم الحدود المشتركة بين الدولتين. وفي حين يدرك زيلينسكي أهمية موقعه ودوره المعادي لروسيا بالنسبة للغرب ولاستراتيجيته التي تقودها وتوجهها واشنطن، فإنّ الغرب يدرك بالطبع قيمة أوكرانيا زيلينسكي له -أي للغرب- ومن هنا تحديدًا تلتقي المصالح الأوكرانية الغربية ضد موسكو وبشكل عميق، وإلى حد يطرح السؤال من يختطف موقف من؟ هل أوكرانيا تختطف موقف الغرب، بحكم موقعها الجغرافي وتوجهاتها السياسية ضد موسكو؟ أم أن الغرب هو الذي يختطف ويسيطر على مواقف أوكرانيا ويوجهها بشكل واضح ومباشر ضد روسيا؟ ومع الوضع في الاعتبار أنه لا يمكن المقارنة من حيث القوة أو التأثير بين أوكرانيا والغرب لاعتبارات وأسباب كثيرة، فإنه يمكن القول إن الغرب بقوته ونفوذه وإمكانياته وتأثيره بقيادة واشنطن، هو من يختطف موقف أوكرانيا حيال روسيا، بل ويوجهه كذلك، ليس فقط من خلال إمدادات السلاح الغربية غير المسبوقة لأوكرانيا، وانتقالها من الأسلحة الدفاعية إلى الأسلحة الثقيلة والهجومية والمساندة التكنولوجية والاستخباراتية لأوكرانيا، كما لو كانت دولة من دول التحالف الغربي، ولكن أيضا من خلال المساندة والدعم المالي والمعونات غير المسبوقة أيضًا لأوكرانيا، وعلى الجانب الآخر، فإنه يمكن القول إن إدراك زيلينسكي لدوره في الحرب الغربية ضد روسيا، ولمصالحه المتبادلة مع الغرب، يمنحه القدرة على الضغط على الغرب للحصول على مزيد من الدعم الغربي العسكري والمالي والاستخباراتي له، بل والسعي الحثيث إلى الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، ولو بشكل مبدئي، بعد أن تبخرت إمكانية انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلنطي، لأسباب معروفة، هذا فضلا عن مواصلة مطالبه -زيلينسكي- بفرض المزيد من العقوبات على موسكو، ومحاولة تحميل روسيا مسؤولية الأزمة الغذائية التي يتعرض العالم لها.
ثانيا: إنه إذا كان من غير الممكن القول إن زيلينسكي يختطف الموقف الغربي حيال الحرب في أوكرانيا وتطوراتها، خاصة وأن الغرب بقيادة الولايات المتحدة له مصالحه الاستراتيجية مع روسيا، وعلى نحو يتجاوز أوكرانيا وما يجري فيها الآن، فإن الرئيس الأوكراني يحاول استثمار الموقف الغربي ضد روسيا إلى أقصى مدى ممكن سواء بمطالبته بمزيد من الأسلحة الثقيلة والمساعدات المالية، أو حتى ربط نتيجة الحرب بمدى تدفق تلك المساعدات إلى أوكرانيا، وعلى أية حال فإن الرئيس الأوكراني، ومن منطلق فهمه لمصالح الغرب في الحرب ضد روسيا واستمرارها لأطول فترة ممكنة لاستنزاف روسيا، قد انتقل من موقع المناشدة للحصول على الدعم الغربي، إلى موقع المنتقد والمهاجم لأية دولة غربية تقصر أو تتردد في تقديم الدعم لأوكرانيا، حدث ذلك ضد ألمانيا وضد فرنسا وضد الدول المتحفظة على فرض حظر على الواردات الأوروبية من النفط والغاز الروسي، بل وحدث ذلك ضد واشنطن نفسها أحيانًا.
وبالنسبة لانضمام أوكرانيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن فرنسا وألمانيا وإيطاليا تحركت بذكاء شديد حيث أيدت ترشيح أوكرانيا رسميًا لعضوية الاتحاد الأوروبي للتجاوب مع رغبة زيلينسكي وهو ما أعلنت قمة الاتحاد الأوروبي الموافقة عليه رسميا في 23 يونيو الماضي واعتبره زيلينسكي «قرارًا تاريخيًا». غير أن الواقع هو أن هناك مسافة وفترة زمنية طويلة بين الترشيح لعضوية الاتحاد الأوروبي وبين الانضمام الفعلي إليه. وذلك نظرًا إلى أن هناك مفاوضات وشروط ومتطلبات على الدولة المرشحة الوفاء بها قبل الانضمام الفعلي إلى العضوية، ومنها ما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد والأوضاع الاقتصادية وتطبيق قوانين الاتحاد الأوروبي داخل الدولة المرشحة وينطبق ذلك على أوكرانيا بالطبع. ومن ثم فإن قرار الاتحاد الأوروبي الأخير يظل رمزيًا وبمثابة دعم سياسي لأوكرانيا، وهو ما يمكن النظر إليه في إطار الاختطاف الأوروبي لموقف أوكرانيا أيضًا. وعلى أية حال فإنه من المؤكد أن قدرة زيلينسكي على دفع أو توجيه الموقف الغربي بوجه عام والأوروبي بوجه خاص ضد روسيا وبما يحقق أهدافه تظل محدودة، برغم أية تصريحات إعلامية أو زيارات لقيادات أوروبية أو أمريكية لأوكرانيا؛ لأن تلك الدول تعي حدود مواقفها وأين تقف في عملها ومعاداتها لروسيا الآن وفي المستقبل.
ثالثًا: إنه مع احترام السياسات الداخلية لأوكرانيا ولحقها المشروع في إدارة سياساتها وعلاقاتها على النحو الذي يحقق مصالحها الوطنية، حسبما ترى قيادتها، فإن السؤال الذي يفرض نفسه يتعلق في الواقع بمسؤولية القيادات عن حماية المصالح الوطنية لبلادها، وبالطبع حول مسؤوليتها المباشرة في تعريض دولها وشعوبها لمخاطر الحرب والتدمير بسبب مواقف أو حسابات سياسية تراها هي، وتثبت التطورات والأحداث خطرها الشديد على حاضر دولها وشعوبها، بغض النظر عن أية مزاعم أو تبريرات على هذا لمستوى أو ذاك. وإذا كانت أوكرانيا قد تعرضت وتتعرض لحالات تدمير ممنهجة ومتواصلة من جانب القوات الروسية، خاصة وأن موسكو أعلنت أنها ستواصل عملياتها العسكرية وتتوسع فيها طالما استمرت واتسعت المساعدات الغربية العسكرية لأوكرانيا، فإن السؤال هو متى تتوقف الحرب في أوكرانيا؟ ومتى ينتهي اختطاف الغرب لموقف زيلينسكي وبلاده؟ وعند أي درجة أو مستوى من التدمير وتفكيك أوكرانيا يمكن لزيلينسكي العودة إلى المفاوضات مع روسيا لإنهاء الحرب والتوصل إلى تسوية سلمية؟ وإذا كان لا يمكن إعفاء روسيا من مسؤولية ما في هذا المجال، فإن قول بايدن قبل أيام إن زيلينسكي «لم يرغب في سماع» تحذيرات واشنطن قبل اندلاع الحرب»، ينطوي على دلالة محددة، حتى مع انتقاد أوكرانيا لهذه التصريحات، وبغض النظر عن هذا الجدل فان الشعوب هي التي تدفع في النهاية ثمن السياسات الخاطئة والحسابات غير الصحيحة لقياداتها وعلى تلك القيادات تحمل مسؤوليتها والعمل على إنقاذ شعوبها ودولها قبل خرابها أو تفككها، إذ أنها ستدفع هي الأخرى ثمن أخطائها.
