مستقبل سوق الأزياء في عُمان

23 أغسطس 2025
23 أغسطس 2025

تعكس صناعة الأزياء فكر المجتمعات وتنوُّعها الثقافي وإمكاناتها الإبداعية وقدرتها على التطوير القائم على امتدادها الحضاري، ولهذا سنجد أن أزياء المجتمعات تقوم على المكونات والخامات والتجانسات اللونية ذات البُعد المجتمعي الذي يميِّزها عن غيرها، ويجعل لها هُويتها المستقلِّة. إنها ليست مجرد لباس بقدر ما هي ثقافة وفكر وتجانس وتوازنات تصنع جوهرا إبداعيا له قيمته الثقافية ومدلولاته الاجتماعية. 

ولقد عرفت الشعوب هذه الصناعة منذ القِدم وأسهمت في دعم اقتصاد الأفراد والأُسر المبدعة في هذا المجال، التي كانت موردا أساسيا في تطوير هذه الصناعة جيلا بعد آخر، إلاَّ أن انفتاح المجتمعات الحديثة وتطوُّر استخدامات التقنيات الحديثة أسهم في تغيير اتجاهات هذه الصناعة، حيث انتشرت عوالم (الموضة والأزياء)، وتقدَّمت مستويات الإبداع والابتكار فيها، إضافة إلى تغيُّر اتجاهات المصممين والمبدعين أنفسهم؛ ما أدى إلى ارتباط هذه الصناعة بتوجهات التنمية المستدامة ومساهمتها المباشرة في تحقيق أهداف الخطط التنموية. 

إن صناعة الأزياء اليوم يُنظر إليها باعتبارها إحدى أهم آفاق التنمية المرتبطة بالقطاعات الاجتماعية والثقافية والبيئية والاقتصادية؛ إذ توفِّر إمكانات تجسِّد أنماط الحياة والأسلوب الاجتماعي والتوجهات الجمالية للمجتمعات، إضافة إلى ارتباطها بالموارد البيئية التي يستمد منها المبدعون خاماتهم بل وحتى أفكارهم الإبداعية وعلاقتهم مع تلك الموارد، لذا فإن هذا الإبداع الذي سيولِّد الابتكارات التي تقوم عليها الصناعة يُعد جوهر عالم الأزياء ومركز قوته، وبالتالي فإن هذه العلاقة في تمثلاتها المختلفة مسؤولة عن اتجاهات موضة الأزياء من ناحية، وقدرتها على الازدهار اقتصاديا من ناحية أخرى. 

فقد شهدت صناعة الأزياء تحولات عدة بفضل التقدُّم التقني المتسارع، وكذلك الوعي البيئي الذي دعم اختيار الأزياء الصديقة للبيئة، بما يُسمى بـ (الموضة المستدامة)، التي تجعل استخدام المواد والمنتجات قادرة على الصمود والتجدُّد، أي أن التركيز هنا على القيمة وليس (الاستهلاك). الأمر الذي دفع الكثير من المصممين إلى دمج مفهوم الاستدامة في الموضة من خلال التصاميم المبتكرة والمواد المستخدمة في تطوير الأزياء، بل إن الكثير منهم لجأ إلى مفاهيم الدمج بين الماضي والحاضر بهدف إعادة إنتاج القديم وبث روح التجديد فيما هو سابق بُغية التوعية البيئية والتقليل من الاستهلاك الضار بالبيئة والموارد الطبيعية، وهذا ما رأيناه في متابعتنا للعديد من أسابيع الموضة لهذا العام أهمها (نيويورك، ولندن، وميلانو، وباريس)، إضافة إلى ما تميزت به أسابيع الموضة في دبي والرياض، التي استحضرت هذا الدمج بشكل لافت. 

يحدثنا تقرير (ملامح الأزياء والموضة للعام 2025)، أن هذه الصناعة تشهد خلال هذا العام حالة من عدم الاستقرار نظرا لتقلُّب السوق وتغيرات فكر المستهلكين، وتأثير الظروف الاقتصادية وبالتالي القوة الشرائية، إضافة إلى سرعة تغيُّر المناخ وانعكاسات ذلك على الفكر الاستهلاكي نفسه. ولذلك فإن التقرير يوصي بتوسعة نطاق هذه الصناعة وتقديم نماذج سوقية مؤثرة، ودعم الابتكار في صناعة الأزياء خاصة ما يتناسب مع المستهلكين الذين أسماهم بـ (الجيل الفضي)؛ وهم المستهلكون الأصغر سنا، الذين يمثلون نسبة عالية من إجمالي السكان في إنفاقهم على الأزياء والموضة. 

يركز التقرير على أهمية (الاستدامة) باعتبارها عامل جذب، وميزة تنافسية أكثر كفاءة؛ فالأزياء المستدامة والقادرة على الصمود والتجدد تُعد الأكثر رواجا، لأنها تمثِّل الخيار الأفضل للمستهلك خاصة ذلك الذي يسعى إلى التجديد والتأنق حتى في ظل الظروف الاقتصادية المتقلبة، أو ذاك الذي يلتزم باقتناء الأزياء الصديقة للبيئة، التي لا تستنزف الموارد الطبيعية ولا تهدرها. إن صناعة الأزياء والموضة تتجه نحو الاستدامة والبحث عن القيمة التي نجدها غالبا في الأزياء (الكلاسيكية) التي يمكن تجديدها بسهولة بما يتماشى مع أنماط الموضة المتغيِّرة. 

ولأن الأزياء العمانية ليست بعيدة عن عالم هذه الصناعة وفكرها المتجدِّد فإنها تتأثر بتلك المتغيرات، وفق معطيات اجتماعية وثقافية وبيئية واقتصادية؛ فقد أثبتت خلال السنوات الأخيرة جدارة وقدرة على المضي قدما على الرغم من التحديات المختلفة المرتبطة بالاستثمار وسوق الأعمال وغيرها، إلاَّ أن هناك الكثير من الجهود التي يقدمها المبدعون في هذا المجال، والعديد من المبادرات الداعمة للمبدعين التي توفرها الشركات الخاصة، وتلك البرامج التي تقودها المصممات المبدعات كسماح الوهيبية، وأمل الرئيسية، وأسماء حاردان وغيرهن، ممن يقدن مبادرات تدعم المبدعين في هذا المجال وتشجعهم وتؤهلهم، بُغية المساهمة في تأهيل المصممين والمصممات العمانيين وتطوير مهارتهم الإبداعية والإدارية لقيادة مشاريع جديدة. 

إضافة إلى ذلك فإن للمصممين العمانيين دور بارز في العديد من المشاركات الإقليمية والدولية، التي كان آخرها مشاركة مجموعة من مصممات الأزياء في مهرجان (لوحة الكتاب) في بليوس روسيا، التي عكست الثقافة العمانية وجوهرها اللافت في صناعة الأزياء. إن هذه المشاركات وتلك الجهود والبرامج المتفرِّقة تحتاج إلى تأطير يرسِّخ قدرة هذه الصناعة وإمكاناتها في دعم الاقتصاد الوطني، بحيث لا تكون ذات طابع فردي غير مستدام، فكثير من تلك المبادرات بدأت قبل سنوات عدة ثم توقفت لظروف تعود في غالبها إلى عدم توفر الإمكانات المادية واللوجستية لدعم استدامتها. 

ولعل اهتمام الدولة بهذا المجال الثقافي الاقتصادي الحيوي يبرز في التعليم العالي؛ حيث نجده متوفرا في العديد من الجامعات والكليات التي تؤهل الشباب المبدع وتخرِّجهم إلى سوق العمل، الأمر الذي يوفِّر لهذه الصناعات طاقات إبداعية يمكن استثمارها ليس من أجل مشروعات صغيرة متفرِّقة ولا مشاركات عامة في المهرجانات، بل من أجل إنتاج قطاع منافس له قيمته الاقتصادية المضافة المستدامة، لأنه قطاع واعد يحتاج إلى دعم وتوجيه وحوكمة، إضافة إلى أهمية فتح أسواق قادرة على استقطاب هؤلاء الشباب واستثمار طاقاتهم الإبداعية. 

فبحسب شركة ستاتيستا الألمانية فإن توقعات إجمالي الإيرادات من سوق الأزياء في عُمان يصل إلى (1.31) مليار دولار أمريكي في عام 2025، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل سنوي يبلغ 1.63% خلال الفترة 2025-2029، ويُعد قطاع الأزياء النسائية الأكبر في السوق حيث يصل إلى 569.27 مليون دولار أمريكي في عام 2025.أما سوق الأزياء العمانية فإن التقرير يخبرنا أن حجم إيراداته يتوقع أن تصل إلى 274.29 مليون دولار أمريكي في عام 2025، فهناك طلب متزايد على الملابس التقليدية خاصة (الكمة) ــ التي أشار إليها التقرير صراحة ــ، التي تمثِّل الهُوية والأصالة والفخر. 

إن سوق الأزياء في عُمان بحسب التقرير يميل نحو الاستهلاك إذ تمثل مبيعات الأزياء (غير الفاخرة) نحو 95% من المبيعات في عام 2025، الأمر الذي يكشف ميول المستهلكين من ناحية، والقوة الشرائية من ناحية أخرى، لذلك فإن الفجوة في هذه الصناعة تدلنا على طغيان الطابع التجاري الاستهلاكي، وبالتالي فإن هناك حاجة ملحِّة إلى العمل المؤسسي التخطيطي القادر على دعمها وتمكينها بحيث تصنع رواد ومصممي أزياء لهم طابع مميَّز، وقادر على الاستدامة، وإيجاد أسواق منافسة للصناعة الفاخرة التي تُعزِّز الجودة والاستدامة والتميُّز في صناعة الأزياء في عُمان، إضافة إلى أهمية تمكين مصممي الأزياء الذين اجتهدوا لتأسيس بصمتهم الخاصة، حتى يصلوا إلى أسواق الأزياء العالمية. 

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة