مجتمعاتنا في زمن السوشيال ميديا

17 أغسطس 2022
17 أغسطس 2022

يمكن القول إن زمن ثورة المعلوماتية والاتصال، في طريقه إلى خلخلة نظم إدراك الفضاء الإعلامي القديم الذي كان قبله، أسس لبنيات أو حالات عكست تحديات وطرحت أسئلة جديدة في إطار اللامتوقع، لأن التفاعلات التي توفرت عليها إمكانات ومساحات هائلة من الفضاء الافتراضي للسوشيال ميديا أصبحت اليوم (بالرغم من غياب أي تقييم نقدي رصين لنتائجها حتى الآن) تفاجئ مجتمعاتنا بمتغيرات كثيرة، إلى درجة يمكن أن نقول إنها أحدثت بلبلةً في فضاء الإعلام التقليدي.

ويحار المرء في الإمكانات الوفيرة التي وفرتها السوشيال ميديا بفروعها المتعددة على ذلك النحو الذي فتح تيسيرات متاحة للأفراد لممارسة هواياتهم - حتى الغريبة منها وغير المقبولة - لكن، أيضا، هناك ما جعل التعبير عن هوايات الأفراد متجاوزا حدوده المجانية بفضل فضاء تجارة الإنترنت - وهي تجارة عابرة للحدود بطريقة غير مسبوقة في التاريخ - الأمر الذي جعل من هواة كثيرين يعيدون التفكير في تعبيرهم الحر والعام عن هوايتهم من حيث اتصالها بالمتابعين على تلك الوسائط، حين عرفوا أن زيادة عدد المتابعين إذا بلغت حدا معينا تمنح صاحب المحتوى فرصة إعلان تجاري؛ مما لعب دورا كبيرا في إثارة حمى التنافس بين منتجي «المحتوى» المجاني في تلك الوسائط - كيفما كان ذلك المحتوى - لأن الشرط الذي تتوقعه دواعي الإعلان التجاري ليس هو جودة المحتوى، بل عدد المتابعين فقط، حيث إن الهدف هو زيادة عائد منتجاتها بوضع الإعلان في روابط سوشيال ميديا منتجي المحتوى بفروعها المتعددة.

هذه الظاهرة التي بدأت اليوم تأخذ وقتا عظيما من الأفراد في متابعة مقاطع الفيديو الصغيرة على « تيك توك» من خلال تقنية «ريلز» في منصة فيسبوك أصبحت ظاهرة مؤثرة، نظرا للوقت المقتطع -الذي لا يتجاوز عدة ثوان- لكن تكرار المقاطع بطريقة سريعة ومتعددة الوجهة والمحتوى سيجعل من المتصفح غارقا في دوامة لا متناهية من متابعة لمقاطع فيديو تمنحه التحكم في اختيارها، كما تضعه أمام مشاهد مثيرة للانتباه من المقاطع الصغيرة والمؤثرة بمختلف مؤثرات العواطف الإنسانية المتناقضة!

هذا الفضاء العالمي الذي صنعته فاعليات تكنولوجية جبارة أصبح من التحكم في حياتنا بمكان خوله وضع قواعد جديدة لنظم إدراك الفضاء الإعلامي، ومن أهم هذه القواعد؛ إفساح المجال للتواصل بأي محتوى، وتسهيل إنتاج ذلك المحتوى في ربطه بفضاء السوشيال ميديا والإنترنت من أي مكان.

ولا يمكن اليوم وفق هذه الشروط الجديدة (التي تجعل الفرد معرضا لتقبل أي محتوى ودون أي تحرز ما دام يمتلك هاتفا ذكيا) التعامل مع هذا الفضاء بأي قدرة على تجنبه ليس فقط من قبل الأفراد الراشدين، بل وهذا هو الأخطر من طرف المراهقين والأطفال. لقد وضعت ثورة المعلوماتية والاتصال عبر ذلك الفضاء اللامتناهي من الإمكانات المتعددة العالمَ أمام حقبة جديدة، لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تسفر عنه تفاعلاتها الهائلة وردود فعل تلك التفاعلات على مستقبل حياة البشر، وبخاصة، أولئك البشر الذين يعيشون في عالم ثالثٍ فاجأته ثورة المعلوماتية والاتصال قبل أن يخرج من أنماط التخلف التي تهيمن على نظم إدراكه.

وهنا، تحديدا، يمكننا أن نؤشر على خطورة ردود فعل محتوى تلك الوسائط على حياة الناس في واقع مجتمعات عالم ثالث، لا تحكم قواعد التعرض فيها لمحتويات السوشيال ميديا أية معايير أو ضوابط. إذ يكفي أن يتوهم بسطاء من الناس في أي محتوى لتلك الوسائط قيمةً ما، فقط لكونه محتوى تتوفر مشاهدته عبر هاتف ذكي!

إن التشويش والبلبلة والاضطراب وإمكانات فوضى المعايير في كل أوجه الحياة التي يمكن أن تحدثها ردود فعل غير محمودة العواقب في آثار التعرض لمحتويات السوشيال ميديا، في مجتمعاتنا هي جزء من ضريبة التخلف التي ستدفعها تلك المجتمعات، ما يعني أن فصولا من الحيرة والبلبلة ستضرب فضاءً افتراضيا عاما غير متحكمٍ فيه في تلك المجتمعات، ليس فقط تحرزا من أصوات الحرية (كما كانت تتحكم أنظمة العالم الثالث في فضائها العام من خلال الإعلام قبل ثورة المعلوماتية والاتصال) بل هذه المرة بسبب فائض حرية تعجز حتى تلك الوسائط - كمنصة فيسبوك - عن تحديد معاييرها، ما يضعنا أمام تساؤلات وتكهنات حيال مستقبل مجتمعاتنا في المدى القريب مع نتائج ثورة الديجتال!