هل نتقدم؟
06 ديسمبر 2025
06 ديسمبر 2025
ما الذي يبعثه فينا خبر القبة الصاروخية التي أعلنت بمناسبة القمة الخليجية الأسبوع الماضي؟ أول ما استحضره ذهني، هو خبر إعلان إسرائيل لقبتها الحديدية عام ٢٠١١م؛ وهي القبة التي اخترقتها الصواريخ الإيرانية هذا العام، ومن قبلها صواريخ حماس وحزب الله؛ رغم تكاليفها الباهظة التي بلغت ٢١٠ ملايين دولار، حسب ما هو منشور.
وإذا كان المسوّقون قد نجحوا في إقناع راسمي السياسات الإسرائيلية آنذاك بجدواها، فيبدو أنهم يصادفون نجاحًا آخر في الخليج هذه المرة. وبعيدًا عن النظرة الأمنية والعسكرية وحساباتها، يبدو أن بلدان الخليج تجد نفسها في مرحلة تطالبها بالمزيد من التقدم، لكن إلى أين يمضي ويفضي هذا التقدم؟
لا شك اليوم أن مدن الخليج أصبحت مراكز جذب عربية وآسيوية وعالمية، ومراكز فرص ومكاسب لكثير من الأجيال العربية والعالمية من خارجها؛ رغم أن الأوضاع الحالية الداخلية المتسارعة فيها تطرح الكثير من التحديات على أجيالها هي نفسها، بين القضايا التي لم تُدرس وتحلل وتُحل، ولم تحل نفسها بنفسها، كما هو رهان الساسة لدينا، ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة سريعة على الماضي العربي كفيل بإعطائنا لمحة عن السيناريوهات المحتملة لمستقبل التقدم الخليجي.
في العشرينيات من القرن الماضي كانت المدن العربية المركزية كالقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت والرباط وغيرها، وإن كانت واقعة آنذاك تحت الاستعمار المباشر بأشكاله، فإن النخب المثقفة فيها كانت تتطلع لمزيد من التقدم يضاهي باريس ولندن ونيويورك.
واليوم بعد مائة عام، إذا ما راجعنا فحسب أخبار نفس هذه المدن في هذا العام وحده، سنجد أن تلك النخب نفسها لا تشغلها هموم مختلفة عن أجيالها السابقة قبل مائة عام، بل هي نفس الهموم نسبيًا، ولكنها ما تزال معلقة بلا حلول، أو مؤجلة، رغم كل تراكمات أحداث القرن الماضي وارتفاعاته وسقطاته. بل إن بعض تلك المدن دخلت في دوامات من التغيرات المتلاحقة وصل بعضها للسقوط كما في بغداد، وأين منها بغداد التي تغنت بها رواية شارع الأميرات للفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في الخمسينيات، أو أين دمشق من الياسمين الدمشقي الذي كان يتغنى به نزار قباني؟
في مناخ ما بين الحربين العالميتين في عام 1939م، كتب عبدالرحمن بدوي في مقدمة أحد أعماله، عن الثورة الروحية التي تحتاجها هذه الأمة، يقول: «هذا الوطن في أشد الحاجة إلى الثورة (الروحية) على ما ألف من قيم.. في أشد الحاجة إلى أن يطرح هذه النظرة القديمة للوجود والحياة، كي يضع مكانها نظرة أخرى، كلها خصب، وقوة، وحياة.. تصاعد فيها قواه.. خالقة تبدع في كل طور من أطوار هذا التصاعد صورًا للوجود خصبة سامية، وقيمًا للحياة.. في الإيمان بها إيمان بإمكان خلق جيل من أبنائه عظيم، وفي تحقيقها تحقيق لنوع من الحضارة زاهر ممتاز»
وما يذكره عبدالرحمن بدوي لا يختلف عما تتطلع إليه النخب الخليجية اليوم، والتي تحلم بتقدم وتحضّر وثورة (روحية) حقيقية.
ففي العدد الأخير الأسبوع الماضي من ملحق عمان الثقافي، نجد معجب الزهراني في المقابلة الصحفية التي أجراها معه الصحفي فيصل العلوي، يعيدنا لنفس المنطقة مستشهدًا بمقولة عبدالكبير الخطيبي: «دخلنا الحداثة على ظهر جمل»، ويضيف بعدها متحدثًا عن مجتمعاتنا اليوم: «تجد في المدينة العربية كما في القرية أو البلدة المرجعيات العتيقة التي تعود إلى آلاف السنين؛ وهي ليست تقليدية بل ما قبل التقليدية، وهي تعمل وتؤثر في وعينا وسلوكنا. ونجد المرجعية العلمية الحديثة في المستشفى أو في المصنع. ونجد المرجعية المعرفية الجديدة في الجامعة أو المدرسة؛ لكن بجانبها مباشرة المرجعيات الخرافية والأسطورية التي يعتقد كثيرون أنها هي التي تؤسس العالم وتفسره.
نحن ما زلنا نعيش هذا التنافر دون أن ندرك عمقه، ونتوهم أن هذه المرجعيات متصالحة فيما بينها، بينما هي في الحقيقة تتصادم وتتناقض في وعينا الجمعي والفردي، لذلك لا أعتقد أننا دخلنا عصر الحداثة بشكل جدي»
عبدالكبير الخطيبي بمناسبة ذكره هو الذي كان يرصد مثل هذه الظواهر العربية ويستقرئ دلالاتها. ويعنينا هنا أن نقتبس إشارته في كتاب الكتابة والتجربة، لأنها توافق هذا العام: «أن يكون المرء ممثلًا سنة 1925م في بلد إسلامي مثل تونس معناه خرق الأخلاق السائدة» ص68. فإذا كانت هذه الظاهرة التي يرصدها الخطيبي غير بعيدة عن مجتمعاتنا اليوم، فيبدو أننا نتقدم ببطء شديد، أو أننا نتقدم وننكص، أو ندور في دائرة مفرغة.
من الواضح أن هناك رغبة حقيقية في التقدم. لكن كما يبدو أن هذا التقدم يعرقل نفسه بنفسه، وما زالت إلى اليوم، كما في الماضي، تتعالى أصوات كثيرة تستشعر الخطر الفكري والعقائدي من كل تقدم أو تحرر. والواقع أن العقائد والهويات والقيم ليست أشياء يمكننا أن نرميها ونتخلص منها متى شئنا.
وإذا تجاوزنا النموذج السوفيتي وما آلت إليه روسيا اليوم، فيمكننا أن نضرب المثل بالنموذج التونسي والسوري، وما عادت إليه تونس وسوريا. فواقع الحال أن الثقافة والدين والأخلاق ليست ثيابًا نلبسها ونخلعها متى شئنا، بل هي في صميم تكويننا. وحتى أشد المتطرفين العرب إلحادًا اليوم لا يستطيع أن يخلص خطابه من تأثيرات الخطاب الإسلامي أو الديني عمومًا، فضلًا عن أن يتخلص من تأثيرات الثقافة في تفاصيل يومه. فالإسلام والدين باق وسيبقى؛ ليس لأن القرار السياسي أو السلطات الاجتماعية تقوم بدور الحارس اليقظ عليه، بل لأن الدين مكوّن عميق في الإنسان عمومًا، ولا يمكن تجاوز ذلك بمجرد توجهات أو قرارات أو توالي الحقب والعصور الزمنية، وكل التهديدات المضخمّة لا تبدو، من هذه الزاوية على الأقل، أكثر من ألعاب سياسية اجتماعية لإبقاء القطيع في الحظيرة.
التقدم الحقيقي لا يأتي من الخارج؛ بل هو صيرورة ثقافية عامة، وكما أن الدين مكون عميق في الإنسان فكذلك بقية سمات الطبائع الإنسانية؛ ولعل أبرزها هنا هو التحرر ومطلب الحرية.
فالإنسان بطبيعته ينزع نحو التحرر من كل القيود، ويريد أن يختار ويلتزم بخياراته بحرية مطلقة، وكل قسر يواجه مقاومة شديدة من الإنسان، بل وقد يفضي به لتفجير نفسه وتدمير ذاته؛ فالسجين وهو في سجنه إنما يحيا على أمل اليوم الذي يخرج فيه من السجن، اليوم الذي سينال فيه حريته من جديد.
هكذا، فإن كل الطرق ممكنة للتقدم، ولسنا ملزمين بالضرورة بالنموذج الغربي أو غيره، ويمكننا أن نتقدم بطريقتنا، ولكن ذلك رهن بوعينا واتساع آفاقه، واليوم لا ينقصنا شيء لفعل ذلك كما يبدو غير التحرر من تمنّعنا الداخلي، أو بالأحرى تخلصنا من كفرنا الجلي بقدرتنا على التقدم. وحين نؤمن بأنفسنا فلا أسهل من إحراز ما نصبو إليه، وليس التقدم شيئًا يمكننا استيراده أو شراؤه، بل التقدم إيمان ينبع من قلوبنا وأرواحنا ويجري لقرون على الأرض.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
