متلازمة التقنية وقلقنا المزمن
11 أكتوبر 2025
11 أكتوبر 2025
استوقفني خبرٌ -قبل فترة قصيرة- عن انقطاع تام للإنترنت في أفغانستان؛ فاشتغل العالمُ ووسائل إعلامه بالمصيبة -كما رآها الإعلام الغربي- التي حلّت على الأفغان جراء توقّف الإنترنت شريان الحياة الاجتماعية، والاقتصادية في عصرنا التقني الحالي، ولم يتأخر الرد الرسمي من الحكومة الأفغانية التي أقرّت عن مسؤوليتها لهذا الانقطاع لأسباب تتعلق بصون القيم الأخلاقية في المجتمع. لا أتصور أن الأمر مرتبط بجانب الصيانة الأخلاقية للمجتمع وحسب، وأراه أكثر ارتباطا بجانب أمني تدركه حكومة طالبان وإدارة ترامب؛ إذ يأتي الانقطاع بعد أيام من تهديدات ترامب الصريحة للحكومة الأفغانية بأنها ستواجه أمرا سيئا حال رفضها تسليم قاعدة «باجرام»؛ فضاعفت حكومة طالبان من درجة ممانعتها ورفضها المطلق لمس أي شبر من أرضها، ولهذا تشير التقديرات -على الأقل السياسية والتقنية- أن الإنترنت -المستعمل في معظم دول العالم- بفضائه المكشوف للمنظومة الأمنية الأمريكية وسيلة استخباراتية أمريكية مباشرة للوصول إلى بيانات الأفراد، والجماعات -الدول والمؤسسات- وإمكانية التعقّب، وتحقيق العمليات العسكرية، بما فيها عمليات الاغتيال، ولا أشكُ في دهاء الأفغان وحنكتهم الأمنية التقنية التي لا تقل عن دهاء المقاومة الفلسطينية في غزة.
تفتح لنا مثل هذه المشاهد تصورات عن «كيف يعمل العالم»، وهنا أستدعي ما قرأته قبل سنوات طويلة في كتاب «كيف يعمل العالم؟» لمؤلفه عالم اللسانيات «نعوم تشومسكي» الذي كشف آلية عمل العالم وفق المخططات الأمريكية التي تعمل على تقويض الديمقراطيات، والعدالة في دول العالم، ودعم الأنظمة الديكتاتورية غايةً في امتصاص ثروات العالم، واكتسابها بمنهج العنف السياسي والعسكري، ولعلّنا مع كتاب «سجلّ دائم» لإدوارد سنودن-الذي أعكف حاليا على قراءته- أكثر قربا لتصور آلية عمل العالم الذي يتجدد في وسائل قمعه للآخر، وأساليب الولوج إلى مكتسباته وخصوصياته، وتكمن الإشارة هنا إلى الإنترنت نفسه الذي عاش معه «سنودن» كثيرا من فصول حياته بدءا من طفولته المرتبطة بالتقنية ووصولًا إلى عمله الاستخباراتي مع الحكومة الأمريكية، فكشف فيها -بعد خروجه من الولايات المتحدة- عن قلق العالم المزمن نتيجة الارتباط غير العادل بالتقنية التي تملك أمريكا كثيرا من أسرارها، وبنيتها التحتية، فأظهر كيف تتجسس الحكومة الأمريكية على بيانات الأمريكيين أنفسهم، وتتنصت على مكالماتهم، وهذا ما يمكنها أن تفعله مع أفراد وجماعات دول العالم النافذة إلى منظومة شبكتهم العنكبوتية الساحرة.
أتصور أن القارئ يتذكر عن المرات -الكثيرة- التي حررتُ فيها سطوري المتحدثة عن عسل التقنيات وسمومها المدسوسة، فذكرتُ أن التقنيات بدءا من الحاسوب وأنظمته البرمجية وشبكة اتصاله ذات البنية التحتية المعقّدة -الكابلات والأقمار الصناعية وغيرها- وبلوغًا إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتطبيقاتها اللا معدودة، فإنها في أصلها -التقني- مملوكة بأسرارها غير الظاهرة من قبل حكومات نافذة أكبرها الولايات المتحدة الأمريكية وقابعة تحت تصرّف شركات معظمها -عدا الشركات الصينية والروسية المنافسة- أمريكية-صهيونية ترتبط مصالحها، وتتقاطع بشكل وثيق مع الحكومة الأمريكية والإسرائيلية.
تؤمن هذه الشركات أننا -نحن البشرية بمجموعها الكلي- سلعٌ تدر المال ولو كان استعمالنا لبعض التطبيقات مجانا -في ظاهره- فإننا مصدر خصب للبيانات بكل أنواعها، وبموافقتنا المكرهين على قبولها، أو غير المباليين بحصولها؛ نظرًا لضعف الوعي التقني المجتمعي.
دول مثل الصين وروسيا، تدرك هذا الخطر التقني، فبذلت جهودها التقنية المنافسة لمعالجة القلق التقني المزمن عبر عدد من الإجراءات منها ما تفعله الصين المتمثّل في امتلاكها لما يُعرف ب «الجدار الناري العظيم» «Great Firewall of China»، وكذلك تعتمد استعمال ترشيح «DNS» والسماح بالبيانات في شبكة الإنترنت أن تسير في حزم صغيرة، وفحصها بدقة وفق تقنية (DPI) الفحص العميق للحزم «Deep Packet Inspection»؛ لحجب المرور الخارجي ومراقبته، وكذلك استعمالها ما يُعرف بـ«المدفع العظيم» باعتباره أداة هجومية واعتراضية قادرة على اعتراض البيانات والسيطرة عليها، فتسهم مثل هذه الإجراءات الوقائية ذات الطابع التقني المستقل في تقليل الصين وشبكاتها الداخلية من الاعتماد على المنظومات الخارجية «الأمريكية»، ويُكسبها قدرة عالية على إحكام السيطرة على ما يخرج ويدخل من بيانات.
نجد ذلك المنحى التقني، والرقمي السيادي أيضا في روسيا عبر عدد من الإجراءات أهمها: تفعيل قانون الإنترنت السيادي منذ عام ٢٠١٩، فيتيح لروسيا ضبط حركة البيانات والإنترنت وتوجيهها وإنشاء نظام وطني لأسماء النطاقات «Domain Name System» يضمن لها استمرار شبكة الإنترنت، حتى لو فُصِلت روسيا عن البِنى التحية التقنية الخارجية الخاصة بالإنترنت، كذلك عملت روسيا -عام ٢٠١٤- على إرساء قانون يُلزم كل مستخدمي الإنترنت في روسيا بتوطين البيانات، وتخزينها داخل الجغرافيا الروسية، ومنع خروجها. رغم ما نجده من وعي تقني صيني، وروسي، وما يشمله من تطويرات تقنية مثل بلوغ مرحلة شبه مستقلة في الإنترنت، وحماية البيانات، ولكن ما تزال أمريكا مهيمنةً على هذا الجزء المهم من التقنيات كما يؤكد «سنودن».
يتسّع مفهوم التقنية ليشمل ما هو أوسع من الإنترنت وثغراته المقلقة، ولكننا ننطلق من حيثُ المبدأ من أسفل الهرم التقني الذي يتمثّل في الإنترنت، والذي يعكس القوة التقنية الأبرز في عالمنا المتقدّم، ولا أظن أننا بحاجة إلى مواجهة قلقنا المزمن بتحديات التقنية بما فيها الإنترنت عبر العزلة الرقمية، والتقنية كما فعلت -مؤقتا- أفغانستان التي لا نلوم خطوتها نظرًا لأهمية تفعيل عامل السرعة، والذكاء في مواجهة خطر استخباراتي، وعسكري محتمل يضر بمصالحها، وسيادتها، وأمنها الداخلي، وهذا ما يمكن أن نتذكره من تجارب الحروب الأخيرة ضد حزب الله في لبنان وضد إيران حيثُ كانت التقنية، والإنترنت بكل ما يرتبط به من تقنيات ومنصات أداةً حددت كثيرا من الأهداف الثمينة وكشفتها. نحن بحاجة إلى قفزة تقنية متقدّمة على غرار القفزات الصينية والروسية التي لا يُشترط أن نمتلك عناصر شبكة عنكبوتية خاصة بنا -الكيجوينات والكابلات والبروتوكولات-، فيكفي أن نرفع من سقف إجراءات التحكّم بالبيانات الداخلة، والخارجة إلينا وسنّ قوانين معنية بالسيادة الرقمية، وأمن البيانات، ومن الممكن أن يكون ذلك وفق منظومة عربية أو إسلامية شاملة تعكس مستوى الوحدة الرقمية والتقنية، وتخفف من وطأة القلق التقني المزمن الذي لا ندّعي القدرة على إزالته المطلقة، فصراع الحضارات قائم على الصعود والنزول الحتمي.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
