ليست محاكمة لإسرائيل وحدها وإنما لزعم تفوق الغرب الأخلاقي

16 يناير 2024
ترجمة: أحمد شافعي
16 يناير 2024

لم يستغرق الأمر فقط تلك الساعات الست -أو ما يربو عليها قليلا- من الجدل القانوني، فقضية الإبادة الجماعية المرفوعة من جنوب إفريقيا على إسرائيل في محكمة العدل الدولية تنوء بثقل عقود من التاريخ. قد تتعلق تفاصيل القضية بهجوم إسرائيل على غزة، ولكنها في الجوهر تتعلق بشيء أكبر من ذلك: هو سد الفجوة بين الواقع الفلسطيني وكيفية وصف القوى المهيمنة له.

مضت أسابيع الآن، والغضب من أحداث غزة مستشرٍ في شوارع أوروبا. وما قوبل هذا الغضب من القادة السياسيين إلا بإصرار على التجاهل والرفض والمنع. ولا ينعكس دعم وقف إطلاق النار ـ الذي تجاوز الآن أكثر من 70% في المملكة المتحدة ـ في موقف الحكومة أو في موقف المعارضة. وعالميا، لم نر إدانة منظمات حقوق الإنسان للعنف والأمم المتحدة والبابا نفسه مترجمة إلى عمل ذي شأن من القادة السياسيين.

لقد قابلت الولايات المتحدة الأمريكية قرار الأمم المتحدة بالدعوة إلى وقف إطلاق النار باستعمال حق النقض. وحتى لغة التظاهر قوبلت بتحليل وتشريح ليبدو التظاهر إشكاليا أو جاهلا، فتم اتهام المتظاهرين بـ«ليِّ عنق» الصراع ليصبح «نظريةً أكاديميةً سائرةً» و«همًّا حديثًا ضيق الأفق» لليساريين والأكاديميين. ويرى وزير الخارجية ديفيد كاميرون أننا لا ينبغي أن «ننطق» باتهام الإبادة الجماعية. وهذا كله يعكس ما يقوله أنصار فلسطين منذ سنين: موقفكم ضعيف. موقف لا يقوم على دليل أو أخلاق، وإنما على انحياز، وتطرف، ويقوم (في الآونة الأخيرة) على ما يعرف بسياسات «الصحوة» wokeness. أي أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ـ بعبارة أخرى ـ صراع معقد، ومن الأفضل أن يترك أمره للكبار.

طالما ارتكز هذا الموقف على حقيقة أنه حتى لو أن دعم الفلسطينيين ذو طابع شعبي، فهو دعم عديم التأثير، ونادرا ما ينتقل من الشوارع إلى حجرات السلطة، وحينما كان ينتقل، كان يتسنى دائما استبعاد تلك المشاعر أو تبديدها. فقد انفصلت أيرلندا -وهي مستعمرة سابقة- حينما جهرت بإدانة إسرائيل شأن بلاد قليلة عن العالم الأنجلوفوني، فتم تصويرها، كما هو متوقع باعتبارها مارقة و«حلقة ضعيفة» في سلسلة الإجماع، ومحض عنصر آخر من عناصر قليلة الشأن لا ينبغي أن تتحمل المسؤوليات الجسام التي لا ينهض لها غير القوى العظمى.

وجاءت قضية محكمة العدل الدولية لتتحدى هذا التصوير في المظهر والجوهر. فمن المهم أن يتم الإصغاء لأمور لم تكن تؤخذ بالجدية الكافية إذ تقال في محفل يتناسب مع جسامتها. ومن المهم لهذه الأمور التي حققت فيها منصات إعلامية ووردت في تقارير منظمات حقوقية، و رواها فلسطينيون موجودون على الأرض أن تجمع وتصنف في موقع واحد: 6000 قنبلة في كل من أسابيع الصراع الثلاثة الأولى، إلقاء ألفي رطل من القنابل مئتي مرة على الأقل، تشريد 85% من أهل غزة، مواجهة 93% من السكان أزمة جوع بمستويات مختلفة.

ومن المهم ربط هذه المزاعم باتفاقية جنيف وقانون حقوق الإنسان. ومن المهم أن تقال في محفل رسمي، وفي إطار قانوني، وأن يقولها محامون ويُصغي إليها قضاة. بل إن الطقوس الرصينة والمظهر الذي تتخذه الإجراءات كانا في ذاتهما نعمة. إذ كان الأثر الإجمالي لهما هو تأكيد منح أهل غزة حقوقهم.

بهذا المعنى، يكون الحكم النهائي أقل أهمية من إقامة القضية في المقام الأول. فبوسعكم الاتفاق أو الاختلاف مع استيفاء معايير الإبادة الجماعية من عدمه (أو في ما إذا كان مهما أصلا أن إسرائيل وحلفاءها سوف يتجاهلون الأمر مهما يكن)، ولكن قبول إجراء يعترف بخطورة الأحداث -وقد ترقى خطورة هذه الأحداث إلى الإبادة الجماعية- يكفي ليكشف أن الرد الدولي كان قاصرًا على نحو صادم.

ليس هذا هو التحدي الوحيد لنظام دولي فرض صعوبات كبير على التحقق من صحة المطالبات الفلسطينية. إذ أن قضية محكمة العدل الدولية تبيِّن كيف أن المنطق الغربي بدأ يضعف، وأن قدرته على الإقناع تتضاءل في عالم متعدد الأقطاب. ولا يمكن أن تغيب على أحد أهمية أن تكون الدولة التي ترفع هذه القضية هي جنوب إفريقيا ـ وهي رمز لويلات الاستعمار والاستيطان والفصل العنصري. كما أنها ترمز إلى ظلم عنصري واسع النطاق، وهو فج وحديث بدرجة يستحيل معها التغاضي عنه باعتباره تاريخًا عتيقًا. وفي شخصية نيلسون مانديلا، يكمن مثال يستحضر وضوحا أخلاقيا لا يعوقه الاضطهاد. فلا عجب أن يأتي كامل الدعم لجنوب إفريقيا من بلاد الجنوب العالمي.

لعلكم تميلون إلى رفض الأمر كله باعتباره استعراضا. ولكن ما السرد السياسي الناجح حقا إن لم يكن القدرة على أسر الخيال؟ ثمة تجربة، منسوجة في حدود هذه البلاد وذكرياتها وسياساتها المعاصرة، هي تجربة الاحتلال الاستعماري واختلالات ما بعد الاستعمار التي تجعل من فلسطين قضية رمزية، تتناغم مع الاستياء من المصالح الغربية المهيمنة التي تخدم القلة وتريد أن تجعل من البقية أتباعا. لقد رفضت ناميبيا دعم ألمانيا لإسرائيل في محكمة العدل الدولية، وأشارت إلى أفعال ألمانيا فيها إذ ارتكبت «أول إبادة جماعية في القرن العشرين» و«لم تكفر بعد بالكامل عن» هذه الجريمة.

لقد تم التعبير بالفعل عن هذه التجارب. فحينما قامت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لم تُدِن الدول الإفريقية هذا العدوان بشكل مطلق. واستعر خطاب مناهض لأوروبا في أعقاب انقلابات شهدتها المستعمرات الفرنسية السابقة في القارة. وليست هذه «نظرية سائرة»، إنما هي اتجاه فعلي. والقضية المرفوعة أمام المحكمة ترمز إلى مواجهة أكبر يبدو أنها تتساءل، من داخل المؤسسات التي أنشأتها، عما إذا كانت البنية الأساسية لحقوق الإنسان حقيقية، أم هي محض مسرح يقام لخدمة نظام دولي طبقي.

سيتم رفض القضية، بالطبع، مثلما حدث بالفعل، بقوة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وألمانيا وغيرها. ولكن رفض المفاهيم والعمليات التي تدعم شرعية هذه البلاد في دعاواها بسلطتها الأخلاقية لن يمر بلا ثمن. ومن المهم للغاية الانتباه إلى أن هذه السلطة الأخلاقية هي السبب وراء تنصيب هذه البلاد لأنفسها أوصياء حكماء على السياسة الخارجية العالمية، حيث يجد الضعفاء الحماية والمعتدون العقاب. فقد وضع الصراع هؤلاء الحلفاء في موقف يسمح لهم بتقويض أنظمتهم أو تجاهلها، فيفقدون مصداقيتهم.

عندما تنتمي إلى الجانب الذي لا ينتمي إليه الأمين العام للأمم المتحدة، والعديد من منظمات حقوق الإنسان، وتعترض على تقديم طلب إلى محكمة عالمية قمت بالتوقيع على اتفاقية إنشائها (أو كنت من منشئيها كحال الولايات المتحدة والمملكة المتحدة) فإنك تفكك منزلك بالأدوات التي بنيته بها. لقد انتابني الإحباط عندما استمعت إلى ريشي سوناك إذ يبرر الغارات الجوية على الحوثيين في اليمن بـ«انتهاكات القانون الدولي» وضمان عدم الإفلات من العقاب، فهذه لغة تنطبق على القواعد التي يتم قصفها في غزة. ولم تبد لي هذه اللغة جوفاء من قبل مثلما بدت في هذه التصريحات.

لقد قال ممثل جنوب أفريقيا في بيانه الافتتاحي في لاهاي: «إن سمعة القانون الدولي في حد ذاتها على المحك». وإسرائيل وحلفاؤها هم الذين يعرضون تلك السمعة للخطر. وقد استفزوا -من خلال القيام بذلك- الرياح الجيوسياسية المتغيرة التي زادت كثيرًا من صعوبة حصول الغرب على إقرار لأجنداته السياسية بالقوة أو التهديد أو العادة المتبعة. ومن خلال خلق هذه النقطة المحورية في التحول، أوضحت القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أن من يعرقلون محاولات إنهاء بلاء غزة هم ربما الذين يتبنون هذه المرة الموقف الضعيف.

نسرين مالك كاتبة رأي في صحيفة جارديان

عن الجارديان البريطانية