ليس وداعا .. ولكن إلى لقاء!!

13 ديسمبر 2021
13 ديسمبر 2021

(من المهم والضروري ألا يكون الإعلام عبئا على السياسة ولا على مواقف الدولة، كما أن الحرية تتطلب وتفترض الوعي والمسؤولية أيضا، وليست أبدا إطلاق الحديث على عواهنه في غرف مغلقة ، ولا التطاول على آخرين)

عندما يصل هذا المقال إلى يدي القارئ الكريم أكون قد وصلت إلى القاهرة ، في ختام رحلة حياة وعمل طويلة في عمان الغالية وبين أصدقاء وزملاء ومعارف كثر ، أكن لهم كل المعزة والتقدير ، وإيذانا ببدء مرحلة جديدة ، أدعو الله أن تكون مثمرة ، وعلى النحو الذي أطمح إليه ، فهناك ما أتمنى إنجازه ، وما أود القيام به فراحتي هي أن أعمل ما أحب قراءة وكتابة وانتقالا بين أماكن أحبها وأسعد بزيارتها .

وبينما تتدافع أفكار كثيرة في ذهني تريد كل منها أن تسبق الأخرى ، ضمن شريط طويل من الأحداث والذكريات والمواقف التي تضفي مزيدا من القيمة على سنوات العمل والحياة التي قضيتها بين أبناء المجتمع العماني الأصيل كواحد منهم وليس كمغترب ، بالعمل في أحد أهم أقسام التحرير في صحيفة عمان وفي وكالة الأنباء العمانية ، وعلى مدى تلك السنوات الطويلة ، والحافلة بالتطورات والتحديات التي مررت بها وعاشت فيها المنطقة لفترات غير قصيرة وبحساسيات بالغة لم أشعر بالاغتراب في عملي ، ولا بازدواجية الشخصية ، أو الانفصام حيال متطلبات ومهام عملي صحيح كان هناك بعض عدم التطابق أحيانا ، ولكن الصحيح أيضا هو أنه كان هناك دوما قدرة على فهم وإدراك متطلبات الواقع العماني وضرورات النهوض به ، لصالح الشعب العماني ولصالح المنطقة من حوله ، وأهمية السير به نحو الأهداف المحددة في كل مرحلة ، رغم أية تحديات ، كما كان هناك استيعاب لمبادئ ومنطلقات ، بل وفلسفة السياسة العمانية التي وضعها وسار عليها المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – في تعامله مع مختلف التطورات والقضايا ، داخليا وخليجيا وإقليميا ودوليا كذلك .

وفي الوقت ذاته كانت هناك قدرة ومساحة للتحمل وسعة الصدر على الصعيد الرسمي ، خاصة مع حرص كبار المسؤولين على إيضاح الأبعاد المختلفة للسياسات والمواقف ، مع كل منعطف ، أو تطور أو تحد تواجهه المنطقة ، والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى ، ومن ثم كان هناك تفاعل دائم ومستمر ، وحوارات عديدة وصريحة ، لم تأخذ أبدا طابع الإملاء أو التوجيه الرسمي ، ولكنها اتخذت دوما طابع حوارات الأصدقاء الذين هم على هدف واحد هو التعبير ، بأقصى قدر من الشفافية والوضوح ، عن سياسات تعبر وتحقق مصلحة الدولة والشعب العماني داخليا وخارجيا ، ومن حسن الحظ أنها كانت دوما سياسات تتفق وتتوافق مع مبادئ وأسس العلاقات الدولية والممارسات الحميدة للسياسات على كافة المستويات ، وهو ما كان له الفضل في تجاوز أية مزالق ، أو ازدواجية قد تحدث لسبب أو لآخر . ومن هنا وطوال سنوات طويلة لم يتم الطلب ، أو التوجيه بالكتابة عن حدث معين ، ولا بطريقة معينة ، أو عدم تناول موضوع أو حدث معين ، وعندما كان يتم التحفظ على تعليق ما ، وذلك في مرات محدودة للغاية ، كان يتم النقاش وإيضاح وجهات النظر التي كانت توضح ، في كثير من الأحيان ، إن التحفظ إنما يعود إلى التفسير الذاتي للموقف ، وليس للسياسات والمواقف الرسمية ، وعلى أية حال فإن هذه شهادة حق أردت أن أسجلها بشأن مواقف وتطورات كثيرة ، ربما لم يدرك البعض منطلقاتها أو دوافعها، في ظل ما مرت به المنطقة من تطورات على مدى العقود الماضية .

وبحكم المعايشة والتفاعل كنت أطلب دوما من زملائي وأصدقائي خلال فعاليات التدريب أو المحاضرات أن يعطوا اهتماما كبيرا ومستمرا لفهم الإطار الاجتماعي والسياسي والقانوني الذي يعملون فيه ، ليس فقط لأن الإعلام هو ابن السياسة ، سواء في عمان أو خارجها ، ولكن أيضا لأنه من المهم أن تتوفر القدرة على التعبير عما يريد الكاتب أن يقوله ، وبشكل محدد يجنبه الاصطدام بضوابط القانون ، أو حدود السياسات والمواقف ، فمن المهم والضروري ألا يكون الإعلام عبئا على السياسة ولا على مواقف الدولة ، وما قد تحتمه التغيرات التي قد تطرأ عليها لاعتبارات المصالح الوطنية في وقت ، أو في ظروف محددة . كما أن الحرية تتطلب وتفترض الوعي والمسؤولية أيضا، وليست أبدا إطلاق الحديث على عواهنه في غرف مغلقة ، ولا التطاول على آخرين ، ولا ترديد شائعات أو كلام مجالس بدون سند أو تيقن من صحة ما يتم نقله ، وعدم تعارضه مع ضوابط القانون والمصلحة العامة للمجتمع .

وفي هذا الإطار فإنه من الأهمية بمكان الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب ، لعل من أهمها ما يلي :

أولا : أنه إذا كانت السياسات والمواقف العمانية ، على امتداد العقود الماضية ، قد نجحت في بناء وترسيخ علاقات الصداقة والاحترام المتبادل مع مختلف الأشقاء والأصدقاء في المنطقة وخارجها ، وباتساع العالم ، وذلك بفضل أخلاقية ووضوح وصراحة المبادئ التي تنطلق منها وترتكز عليها السياسة العماني وتقييم القيادة وتحديدها للمصالح الوطنية العماني ومقتضياتها في الظروف المختلفة ، فإن ما يقوم به ويسعى إليه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله ورعاه - ، منذ توليه مقاليد الحكم ، هو بمثابة امتداد للسياسات والمواقف والمبادئ التي قامت وتقوم عليها السياسات العمانية ، مع إدخال ما تقتضيه التطورات الراهنة والتقييم المستمر لمتطلبات المصالح الوطنية في الظروف المختلفة ، واتساقا أيضا مع حاجات التنمية المستدامة في المرحلة الثانية من النهضة المتجددة ، بكل ما يترتب على ذلك من احتياجات ومتطلبات ونتائج في المجالات المختلفة وعلى طافة المستويات ، والمؤكد أن النشاط والتحرك السياسي العماني في الفترة الأخيرة ، حيال الأشقاء والأصدقاء ، إنما يعبر عن ذلك على نحو بالغ المعنى والدلالة . وهو ما يوفر متطلبات تحقيق الأهداف والأولويات في إطار الرؤية الإستراتيجية " عمان 2040 " والتي تحظى بإجماع وطني شامل بحكم مشاركة مختلف قطاعات المجتمع، وخاصة الشباب، في مناقشتها ووضع أسسها وتحديد الكثير من برامجها التي بدأ العمل على تنفيذها في إطار خطة التنمية الخمسية العاشرة ( 2021 – 2025 ) .

ومن ثم فإنه يمكن القول بأن سلطنة عمان بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم تتوفر لها كل متطلبات السير والنجاح في تحقيق أولوياتها الوطنية ، بدءا من برنامج تحقيق التوازن المالي والاقتصادي متوسط المدى ، و القائم على الاستقرار والاستدامة المالية والحد من العجز المالي وتنويع مصادر الدخل ، وحتى السير على طريق تنفيذ رؤية " عمان 2040 " على النحو المحدد والمأمول. خاصة مع النشاط المنتظر لعمليات الاستثمار والمشروعات المشتركة المزمع تنفيذها خلال الفترة القادمة ، وذلك في ضوء النتائج المترتبة على التحرك السياسي العماني النشط والفعال مع الأشقاء ، وفي مقدمتهم السعودية وقطر ، والأصدقاء وفي مقدمتهم المملكة المتحدة والولايات المتحدة والصين وغيرها .

ثانيا : إنه في الوقت الذي يسعدني فيه أن أعبر عن خالص امتناني وشكري للأصدقاء والزملاء والمعارف ، بمختلف مواقعهم ، وأبناء الشعب العماني الطيب بكل فئاته ، الذين غمروني بودهم ولطفهم على امتداد السنوات الماضية وحتى سفري أمس ، فإنني على يقين ذاتي بأنني لا أقول "وداعا عمان" ، ولكن أقول " إلى لقاء" ، فعودتي إلى القاهرة ليست نهاية المطاف ، ولكنها استراحة محارب ، لاستئناف النشاط مرة أخرى ، ولأسعد، في إطاره ، بزيارة عمان ، زيارة صديق يود رؤية أصدقائه وزملائه ، واستعادة ذكريات طيبة معهم ، ورؤية مناطق مختلفة لم يوفر العمل فرصة زيارتها أو الاقتراب منها بشكل كاف.

وفي حين يشير شريط الذكريات إلى مشاهد الأيام والأسابيع الأولى للوصول إلى مسقط ، والتي كانت مختلفة إلى حد بعيد عما هي عليه الآن ، في كثير من المكونات والمواقع والتفاصيل ودرجة التطور والاتساع ، فإن مسقط المدينة والموقع تظل قادرة على النمو والتطور والازدهار، شأنها شأن كل محافظات سلطنة عمان بتنوعها وامتداداتها الشاسعة ، وبجبالها ووديانها وسهولها ونجدها وأفلاجها العديدة وبأنواعها المختلفة ، وكما تم النجاح في تشييد صرح دولة عصرية فتية ، سيتم النجاح بالتأكيد في مواصلة التطور والتنمية والازدهار ، بفضل جهود أبناء الشعب العماني الأصيل ، والشباب في المقدمة منهم ، من أجل تحقيق حياة أفضل في الحاضر والمستقبل . وتبذل القيادة العمانية جهودها الحثيثة لتوفير كل متطلبات وضمانات النجاح في تحقيق ذلك .

ثالثا : إن انتهاء رحلة العمل والحياة في سلطنة عمان هي من طبائع الأشياء ، فكل ما له بداية له نهاية بالتأكيد ، غير أن هناك أشياء تترك أثرها وتأثيراتها بشكل كبير ، وذلك لاعتبارات كثيرة ، وإذ يسعدني أن أعبر عن شكري وعرفاني لأصحاب المعالي الوزراء وأصحاب السعادة الوكلاء ، الذين تولوا قيادة وزارة الإعلام على مدى العقود الماضية ، والذين يقودونها حاليا ، والأصدقاء الذين تولوا مناصب مختلفة فيها ، وكذلك أصحاب المعالي والسعادة ممن شرفت بصداقتهم ومعرفتهم في المواقع المختلفة على امتداد السنوات الماضية ، فإن ثقتي كبيرة في معاودة الالتقاء والتواصل مع الكثيرين من الأصدقاء والزملاء ، سواء في مصر أو في عمان ، أو في خارجهما ، فما عاشه ويحمله الإنسان من خبرات ومشاعر طيبة تكونت وترسخت على مدى سنوات طويلة ، لن ينال الزمن منها ، لأنها ببساطة لم تكن عابرة ولا سطحية ، ولكنها صادقة وعميقة ، ولعل الكتابين اللذين سيصدران قريبا ، وهما كتاب " السلطان قابوس ..الحياة من أجل عمان " وكتاب " أحاديث جلالة السلطان قابوس لوسائل الإعلام العربية والأجنبية " يشكلان خاتمة بالغة المعنى والدلالة ، أعتز بهما بالتأكيد ، لما بذل فيهما من جهد ووقت ، وليكونا إضافة موضوعية للمكتبة العمانية والعربية ، وليشكلان وردتين جميلتين في حديقة السلطان قابوس- طيب الله ثراه – وأثق تماما في أنهما سيحظيان بالرعاية اللازمة على كل المستويات ، ولن أقول وداعا ، ولكن إلى لقاء .