لماذا انزعجت إسرائيل من عملية الحدود مع مصر؟

19 يونيو 2023
19 يونيو 2023

عمدت إسرائيل في الأيام الأخيرة إلى نشر أجزاء منتقاة من تقرير لجنة «أجرانات» حول أحداث حرب أكتوبر عام 1973، وذلك بمناسبة مرور خمسين عاما على ما أسمته إسرائيل «بالتقصير» ونسميه نحن في مصر والعالم العربي وغيره بانتصار أكتوبر وأول هزيمة لإسرائيل على أيد مصرية عربية، وهو كذلك بالفعل، بغض النظر عمن في قلوبهم مرض أو غرض ما، وإذا كانت إسرائيل قد اختارت أن يكون ذلك متزامنا مع ذكرى نكسة يونيو عام 67 وما يصاحبها من ذكريات أليمة بالنسبة لنا كعرب، وإذا كانت القيادة الإسرائيلية قد اختارت بذلك أيضا رفع معنويات جنود جيشها، إلا أنها أفاقت، بالتزامن مع ذلك، على صفعة وصدمة هزتها بقوة، وهو ما حدث على أرض الواقع وعلى الحدود المصرية في سيناء وبيد جندي مصري لم يتجاوز عمره اثنين وعشرين عاما، حيث قتل الجندي محمد صلاح إبراهيم يوم الثالث من يونيو الجاري ثلاثة جنود إسرائيليين هم: رقيب أول أوري إيلور، ورقيب أول أهاد دهان ورقيب ليا بن نونوهم من كتيبة الفهد، بالإضافة إلى جرح ضابط وإصابة جندي آخر، وذلك في اشتباك امتد لعدة ساعات واستعان خلاله الجانب الإسرائيلي بالمسيرات لمسح المنطقة وكشف الساتر الذي احتمى فيه محمد صلاح حتى استشهاده. وقد ألقت هذه العملية الجريئة بظلالها على العلاقات المصرية الإسرائيلية وهو ما سيستمر على الأرجح لبعض الوقت في ضوء التحقيق المشترك بين الجيشين المصري والإسرائيلي.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى بعض العوامل والدلالات المرتبطة بهذه العملية التي أثارت صدمة وغضبا ودهشة وتساؤلات تحدث وتتكرر في إسرائيل ومن أبرز هذه العوامل ما يلي:

أولا: بالنسبة للجندي محمد صلاح إبراهيم فهو أحد الجنود العاديين في الجيش المصري وهو أحد جنود حرس الحدود في سيناء وفي قطاع تحدث وتكثر فيه عمليات تهريب المخدرات وبتورط المخابرات والجيش الإسرائيليين أيضا. وباعتراف مصادر إعلامية إسرائيلية في الأيام الماضية تحدثت عن تعقيدات عملية الحدود وتورط مسؤولين عسكريين بدوافع أمنية واقتصادية. وإذا كان الجيش الإسرائيلي قد فتح تحقيقا من جانبه في العملية، خاصة أنه يريد الحصول على أكبر قدر من المعلومات حول محمد صلاح ودوافعه وكيفية تفكيره في العملية وسبب تضحيته وتقريره البقاء في موقع الاشتباك وعدم عودته إلى موقعه في الجانب المصري واشتباكه مع التعزيزات التي جاءت لنجدة عناصر الموقع الإسرائيلي الذي قتل منهم اثنين ولم يتم اكتشاف مقتلهما، إلا بعد نحو ساعتين على الاشتباك الأول معهم، وبالفعل قتل منهم عنصرا ثالثا قبل استشهاده في الاشتباك الثاني، فإن مما له دلالة عميقة أن التحقيق الإسرائيلي الذي وصف العملية بأنها حادث «خطير ومروع» أكد أن العملية «حادث فردي» وتعامل مع العملية على أنها حادث إرهابي حتى يقلل من أهميتها ودلالتها وحتى يرفع من معنويات جنوده ويلقي بالمسؤولية على الجانب المصري بشكل أو بآخر.

على صعيد آخر، فإنه مما يثير صدمة إسرائيل أن الحدود المصرية الإسرائيلية هي حدود تتسم بالهدوء وما تشهده من حوادث إطلاق نار أحيانا يرتبط بالأساس بأنشطة تهريب المخدرات المتورط فيها جنود إسرائيليون، ومنذ حادث مقتل عدد من السياح الإسرائيليين في سيناء على يد الجندي المصري سليمان خاطر قبل نحو ثلاثين عاما لم يحدث أن قتل جنود إسرائيليون إلا هذه المرة. يضاف إلى ذلك أن توقيت العملية بالتزامن مع ذكرى نكسة يونيو يثير تساؤلات أخرى لدى الإسرائيليين وما إذا كان محمد صلاح تصرف من ذاته وبمفرده برغم أن التقرير الإسرائيلي حسم هذه النقطة. وتجدر الإشارة إلى أن الشكوك الإسرائيلية، التي صاحبها اعتقاد إسرائيلي بأن الجيش المصري لم يتعاون بما فيه الكفاية في التحقيقات المشتركة على حد زعمهم إنما يعود إلى عدم قدرة الإسرائيليين على فهم الشخصية المصرية التي لا تفرط في حق ولا تنسى الإساءة لها ولبلدها، فالجندي محمد صلاح وبرغم صغر سنه، إلا أنه كجندي وكمواطن مصري لم ينس الجرائم الإسرائيلية البشعة ضد الجنود المصريين في نكسة 67 وهي جرائم تخالف وتنتهك كل قوانين وأعراف الحروب وهي جرائم ضد الإنسانية ينبغي محاكمة إسرائيل عليها ودفع ثمنها أيضا اليوم أو بعد حين فهذه جرائم لا تسقط بالتقادم. وإذا كان محمد صلاح قد تصرف بمفرده وفي إطار واجبه بمنع أعمال تهريب المخدرات وانتقال أفراد عصاباتها عبر الحدود بين مصر وإسرائيل وبمساعدة إسرائيلية لإغراق مصر بالمخدرات واستهداف شبابها، فإن وصف إسرائيل للعملية بأنها عملية إرهابية ليس صحيحا ولكنها حسابات الدعاية والسياسة وأثر الماضي بين مصر وإسرائيل وعدم فهم سيكولوجية الشخصية المصرية التي يذوب فيها الخاص في العام والذاتي في الوطني بغض النظر عن العمر ومحمد صلاح نموذج واضح وعملي لذلك.

ثانيا: إن البعد العسكري والعملياتي لعملية الحدود، الذي درسه الإسرائيليون بعمق لاستخلاص الدروس المستفادة بلغة العسكريين كشف عن نقطتين أثارتا انزعاج وقلق الإسرائيليين، النقطة الأولى تتعلق بالجانب المصري وبالكفاءة القتالية لأفراد الجيش المصري، فقد اعترف الجانب الإسرائيلي بكفاءة ومهارة الجندي محمد صلاح القتالية، وذلك برغم أنه جندي حرس حدود، وبرغم أن هناك معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل منذ عام 1979، صحيح أن إسرائيل تحرص على متابعة أية تطورت تتعلق بكفاءة وتطوير الجيش المصري وبكل السبل الممكنة لديها ولكن الصحيح أيضا أن لمصر وأجهزتها القدرة على الحفاظ على أمنها القومي وعلى المستويات العسكرية والسياسية وغيرها. وبرغم أية صعوبات أو تحديات واجهتها أو تواجهها مصر والأمثلة كثيرة في هذا المجال، والأكثر من ذلك أن هناك في إسرائيل أصواتا حذرت وعلى نحو واضح من قدرة مصر على تطوير قدراتها وضرورة التحسب الإسرائيلي لذلك.

- أما النقطة الثانية فإنها تتعلق بالجانب الإسرائيلي ذاته، وما كشفت عنه عملية الحدود من عدم انضباط وعم كفاءة في أداء الوحدة التي هاجمها محمد صلاح، وكذلك ارتباك رد الفعل من جانب عناصرها، وتأخر قوات الهليوكوبتر في الاستجابة لنداء الاستغاثة لأن وحدة الهليوكوبتر كانت خارج الخدمة بسبب الصيانة، وتأخر الوحدة الإسرائيلية في اكتشاف الحادث وتحديد مكان محمد صلاح والاشتباك معه حتى ظهر السبت الثالث من يونيو الجاري وهذه وغيرها توقف عندها التحقيق الإسرائيلي الذي تم رفعه إلى رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال هير تسي هاليفي لإطلاعه على النتائج وذلك وفق بيان الجيش الإسرائيلي يوم 13 يونيو الجاري. وتجدر الإشارة إلى أن بيان الجيش الإسرائيلي وصف العملية بأنها «حادث خطير أسفر عن نتائج عسكرية مروعة وأن الحادث كان يمكن الحؤول دون وقوعه».

ثالثا: إنه في الوقت الذي يكشف فيه البيان الذي أعلنه الجيش الإسرائيلي عن جوانب تقصير عسكرية تورطت فيها قيادات عسكرية بدءا من قيادة الفرقة 80 وقائد اللواء وقائد كتيبة الفهد، فضلا عن تحديد مكامن خطأ ينبغي تغييرها في أداء وإجراءات الجانب الإسرائيلي على الحدود مع مصر، بما في ذلك البوابات الأمنية السرية في السياج الأمني وكيفية إغلاقها بعد أن فتحها محمد صلاح خلال دقيقة واحدة حسبما أشار التحقيق الإسرائيلي، فإن الجانب المصري تمسك بروايته ورؤيته للحادث على أساس أن محمد صلاح كان يقوم بواجبه في اعتراض مهربي المخدرات وأنه في تعقبه لهم اجتاز السياج الحدودي دون تعمد وأنه أطلق النار على مهربي مخدرات والذين تبين أنهم عناصر في الجيش الإسرائيلي. وبينما يتواصل التحقيق المشترك بين الجيشين المصري والإسرائيلي في إطار التعاون الأمني بين الجانبين، حيث زار وفد عسكري إسرائيلي القاهرة الخميس الماضي، فإن الجانب الإسرائيلي يعتقد بعدم تجاوب المصريين في التحقيق بما فيه الكفاية أو بما يرضيهم على حد زعمهم. وبرغم الإجراءات التي تم اتخاذها وسيتم اتخاذها على هذا الجانب أو ذاك فإنه لا يمكن الجزم بأن عملية محمد صلاح هي الأخيرة.