لماذا أصبح العالم أكثر حزنا؟
من الطبيعي أن تتقلب مشاعرنا كأفراد على مدار اليوم بين الحزن والفرح، وبين القلق والطمأنينة، والغضب والرضا، والراحة والإجهاد، والملل والمتعة. هكذا خلق الله البشر لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى. ولكن ماذا إن اجتمعت تلك المشاعر معا وخرجت من الإطار الفردي إلى الإطار الجماعي، ومن ثم تباينت بين الشعوب والدول؟ ولماذا يتصاعد منسوب المشاعر السلبية والتعاسة لدى بعض الشعوب، ويتزايد منسوب المشاعر الإيجابية والسعادة لدى شعوب أخرى؟
الإجابة عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة، التي قد يكون طرح بعضها محرما في بعض الدول، كانت محور اهتمام تقرير مؤشر السعادة العالمي الذي يصدره سنويا مركز جالوب لاستطلاعات الرأي العام منذ عام 2006. التقرير الأخير (تقرير 2022) غطى مؤشرات السعادة العام الماضي، من خلال مسح عالمي أجراه المركز في 146 دولة ومنطقة في العالم، ونشره على موقعه على الويب، وكشف عن نتائج مهمة وخطيرة في نفس الوقت، وينبغي للدول -خاصة العربية منها- أن تقرأها جيدا، وأن تضعها في الاعتبار عند اتخاذ قرارات قد تؤثر في نفسية مواطنيها، حتى تستطيع أن تحقق قدرا أكبر من السعادة الحقيقية وليس السعادة المزيفة والدعائية للغالبية العظمى من شعوبها، وتصعد بها درجات في مؤشر السعادة العالمي.
وبعيدا عن المنهجية الخاصة المتبعة في التقرير، فإن ما يهمنا أولا هو ترتيب الدول في سلم السعادة اعتمادا على متوسط نتائج الدول خلال ثلاث سنوات تمتد من 2019 إلى2021. الدول العربية التي ظهرت في هذا المؤشر، هي البحرين واحتلت المرتبة الأولى عربيا والحادية والعشرين عالميا، ثم الإمارات في المركز الرابع والعشرين، والسعودية الخامس والعشرين. وتأتي ليبيا في المرتبة السادسة والثمانين، والجزائر السادسة والتسعين، والمغرب في المرتبة المائة، والعراق 107، وجزر القمر 116، وتونس 120، ومصر 129، واليمن 132، وموريتانيا 133، والأردن 134، ولبنان 145. ولم تظهر بقية الدول العربية في المؤشر، ربما لغياب المعلومات وعدم إجراء الاستطلاع بها. من المهم أن نشير إلى أن الدول العشر الأولى في مستوى السعادة كانت كلها أوروبية، باستثناء دولة الكيان الصهيوني التي جاءت في المركز التاسع، ونيوزيلندا التي احتلت المرتبة العاشرة، وسبقتهما في المراكز من الأول إلى الثامن على الترتيب: فنلندا والدنمارك، وإيسلندا، وسويسرا، ونذرلاند، ولوكسمبورج، والسويد والنرويج، فيما حلت ألمانيا في المرتبة الرابعة عشرة، والولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة السادسة عشرة، تليها المملكة المتحدة في المرتبة السابعة عشرة.
لا يعتمد مسح «جالوب» على لغة الأرقام والتصنيفات الرسمية وما تقوله الدول عن نفسها أو ما يصرح به وزراء السعادة في الدول التي استحدثت هذه الوزارة، كما لا يعتمد على معايير السعادة الرسمية التي وضعتها منظمات الأمم المتحدة المعنية، ومنها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومستوى الدعم الاجتماعي، ومتوسط العمر المتوقع للأفراد، والحرية. بدلا من ذلك يعتمد المسح على إجابات عينة البحث، التي ضمت نحو 150 ألف شخص من أكثر من 140 دولة وبواقع 1000 شخص تقريبا من كل دولة، باستثناء الصين والهند وروسيا الاتحادية التي سحبت منها عينات أكبر، عن أسئلة في ثلاثة محاور، هي محور تقييم الحياة، وفيه يطلب من المستجيب تقييم حياته على درجة من 10 (الأفضل) إلى صفر (الأسوأ)، ومحور المشاعر الإيجابية، وتشمل أسئلة عن مشاعر الضحك والاستمتاع وتعلم شيء مهم، ومحور المشاعر السلبية ويتضمن أسئلة عن مشاعر القلق والتوتر، والحزن، والغضب.
ماذا تقول نتائج المسح العالمي؟ باختصار تؤكد النتائج أن العالم غير سعيد، وأن المزيد من البشر أصبحوا أكثر تعاسة، ويعانون من القلق والإجهاد والتوتر والحزن أكثر من أي وقت مضى. السبب الأساسي بذلك الأزمات العالمية السياسية والاقتصادية والصحية، وعلى رأسها انتشار جائحة كورونا وتأثيراتها السلبية على كل نواحي الحياة خلال العام الماضي. من المؤكد أن هذا الوباء عزز مشاعر التعاسة لدى كل شعوب العالم، وقد ألقت أزمة الغذاء العالمية التي صاحبت اندلاع الحرب في أوكرانيا بظلالها على مشاعر مختلف الشعوب وكانت من أهم أسباب التعاسة البشرية، خاصة بعد أن بدأت شعوب كثيرة في العالم التأثر سلبيا بتداعيات تلك الحرب على الاقتصاد العالمي والاقتصاد الوطني لكل دولة، أما الأسباب الشخصية لعدم الشعور بالسعادة فيمكن جمعها كما يقول جون كليفتون رئيس «جالوب» في خمسة أسباب هي الفقر، والعيش في مجتمعات منهارة، والجوع، والشعور بالوحدة، وندرة الوظائف والأعمال الجيدة. ويكفي أن نشير هنا إلى ما أكده التقرير أن هناك نحو 330 مليون شخص قد يمضون أسبوعين أو أكثر دون التحدث إلى صديق واحد أو إلى أحد أفراد الأسرة. وارتفعت نسبة الرجال الذين ليس لديهم أصدقاء مقربين من 3 بالمائة في عام 1990 إلى 15 بالمائة في2021. ولذلك لم يكن غريبا أن يقول أكثر من ربع الناس الذين شملهم المسح أنهم تعرضوا لحالات حزن شديد، وقال 42 بالمائة أنهم عانوا من القلق بشكل كبير. الخطير في الأمر أن الزيادة في المشاعر السلبية رافقها انخفاض في التجارب والمشاعر الإيجابية، ولذلك يشعر الناس بحزن أكبر وفرح أقل. ومع ذلك يجب أن نعلم أن مشكلة زيادة مستويات التعاسة في العالم بدأت قبل وقت طويل من انتشار كورونا.
وعلى مستوى الشعوب كان الشعب الأفغاني الأقل سعادة في العالم، ووصل انخفاض مؤشر السعادة لديه إلى درجة لم يصل إليها في أي بلد على مدار أكثر من عشر سنوات، واقع الأمر أن الأفغان يحتلون المركز الأول على مستوى العالم في عدم الشعور بالسعادة منذ خمس سنوات وتحديدا منذ عام 2017 وحتى اليوم باستثناء عام 2020 وهو العام الذي لم يجر فيه المسح. وقد ارتفعت مستويات القلق والتوتر والحزن لديهم إلى مستويات قياسية في العام الماضي، إذ اتضح أن 80 بالمائة ممن شملهم الاستبيان كانوا قلقين، و74 بالمائة كانوا متوترين، و61 بالمائة شعروا بالحزن.
عربيا خلت القائمة القصيرة للشعوب الأكثر إيجابية والسعيدة من العرب الذين شملهم المسح، بينما ضمت شعوبا من أمريكا اللاتينية وآسيا وأوروبا وإفريقيا، وقد جاءت بنما في المركز الأول ثم إندونيسيا في المركز الثاني وباراجواي في المركز الثالث، وتلتها السلفادور وهندوراس، ونيكاراجوا، وإيسلندا، والفلبين، والسنغال، والدنمارك، وجنوب أفريقيا. وجاءت في ذيل تلك القائمة ستة شعوب عربية هي لبنان ومصر وتونس والأردن والجزائر والمغرب، متساوية في ذلك مع شعوب أفغانستان وتركيا والنيبال وبنجلاديش وأوكرانيا وسيراليون والهند وجورجيا. أما قائمة الشعوب الأعلى في المشاعر السلبية فقد ضمت لبنان في المركز الثاني بعد أفغانستان، إلى جانب العراق في المركز الثالث، والأردن في المركز الخامس.
إن الدرس المستفاد من مثل هذه التقارير العالمية أنها تفتح أعيننا على جوانب مهمة في التنمية البشرية التي لا يمكن أن تقاس بالمقاييس الاقتصادية المادية المعروفة فقط. فمشاعر البشر الحقيقية وإحساسهم بالأهمية والإنجاز الفردي واستمتاعهم بالحياة وزيادة النظرة الإيجابية لديهم، إلى جانب خفض مستوى القلق والتوتر والحزن وخفض التجارب والمشاعر السلبية لديهم، يجب أن تكون محل اهتمام الحكومات، خاصة وأن رفاهية الشعوب لا تعني توفير المتطلبات والخدمات المادية الأساسية لها بقدر ما تعني تنمية الطاقة الإيجابية والنظرة المتفائلة.
من حق كل إنسان أن يشعر بالسعادة من داخله، أن يضحك ويفرح ويأمل في المستقبل، دون أن تقض مضجعه مشاعر سلبية كالحزن والقلق والتوتر والغضب، ولن يتحقق ذلك إلا إذا بادرت حكوماتنا العربية إلى وضع مقاييس واضحة، وإجراء مسوح منتظمة للرضا الوطني ونشر نتائجها، تماما مثلما تنشر أرقام الناتج المحلي الإجمالي، التي لا يعلم غالبية المواطنين ماذا تعني؟ وما مردوداتها المباشرة على حياتهم وسعادتهم؟
أ.د. حسني محمد نصر كاتب مصري وأستاذ في قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
