لبنان بعد الانتخابات .. طموحات قد تتجاوز الممكنات !!

06 يونيو 2022
06 يونيو 2022

ليس من المبالغة في شيء القول إن لبنان، المجتمع والدولة، قد شكل على مدى سنوات عديدة رئة للتنفس ومساحة للتنفيس تتنافس فيها وتتقاطع عليها مصالح وتطلعات ومخططات وطموحات القوى والأطراف العربية والإقليمية والدولية ذات الصلة بالمنطقة، مرئية كانت أو غير مرئية. وبالرغم مما يتميز به لبنان والشعب اللبناني من حيوية وحب للحياة وقدرة على تجاوز التحديات والحد قدر الإمكان من سلبياتها، إلا أنه كان لسنوات عديدة بمثابة تجسيد، في جانب منه على الأقل، لحالة المنطقة العربية، بطموحاتها وخيباتها، وقد ظهر ذلك بوضوح شديد في فترات مختلفة، وتجسدت بشكل حاد قبيل انتخابات البرلمان اللبناني عام 2018، وكذلك قبل انفجار مرفأ بيروت في أغسطس عام 2020 وما حدث بعده من أزمات سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية دفع المواطن اللبناني ثمنها غاليا ولا يزال يدفع من حاضره ومستقبل أبنائه، وهو ما أيقظ في الواقع الدعوة والرغبة في التغيير، وعلى نحو عبر عن نفسه بشكل واضح في الانتخابات النيابية التي جرت في الخامس عشر من مايو الماضي، والتي يمكن أن تشكل منعطفا مهما في السياسة والحاضر اللبناني، خاصة إذا نجح المجتمع اللبناني ومؤسسات الدولة اللبنانية في النجاة من شباك القوى السياسية والطائفية التي عملت بكل السبل من أجل السيطرة على القرار اللبناني ودفعه في اتجاهات محددة لخدمة مصالحها الضيقة، وهو ما ساهم في الواقع في تفاقم كثير من المشكلات اللبنانية في مجالات عدة وعلى مستويات مختلفة، مما وضع لبنان على حافة الدول الفاشلة. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه بقوة الآن هو: هل سيتمكن لبنان الدولة والمجتمع من الخروج من دائرة السيطرة والارتهان لقوى حزبية وطائفية محددة أجادت ممارسة لعبة السياسة لخدمة مصالحها الحزبية والطائفية، وتفسير المصالح الوطنية اللبنانية من خلال مصالحها هي بغض النظر عن مصالح الشعب والدولة اللبنانية في الحاضر والمستقبل ؟ وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

* أولا: إنه بالرغم من أن انتخابات 15 مايو 2022 قد شابها بعض الخروقات والتجاوزات، التي اعترف الرئيس اللبناني ميشيل عون بحدوثها وقلل من أثرها، كما أشارت إليها فرنسا ورصدتها بعثة الاتحاد الأوروبي، ولم تنزعج واشنطن لحدوثها في ظل الواقع اللبناني، إلا أن اتخاذ حكومة نجيب ميقاتي لقرار إجراء الانتخابات والتحضير لها وتوفير كل ما يمكن لإجرائها بشكل يمكن أن يسهم في إخراج لبنان من النفق الذي يسير فيه منذ عدة سنوات، هو بالتأكيد قرار شجاع ويحسب لرئيس الوزراء نجيب ميقاتي الذي أكد بوضوح أنه لن تثنيه العقبات عن السير في طريق تنفيذ ما تعهد به، ولكنه «لن يسمح بالدفع بلبنان إلى الانتحار»، وبالفعل جرت الانتخابات النيابية اللبنانية رغم محاولات التخويف والترهيب وحالة الاستقطاب الداخلي والأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة واستقواء بعض القوى اللبنانية بما في يدها من سلاح وبتحالفات إقليمية معروفة.

وما يزيد من أهمية ودلالة إجراء الانتخابات اللبنانية، أنها أنهت عمليا أحد أهم مبررات تأجيل وإلغاء وتجنب إجراء الانتخابات في عدد من البلدان العربية بحجج عدم الاستقرار وتفاقم الأزمات وانشغال الناس بقوت يومهم وتناحرهم سياسيا، فقد جرت الانتخابات النيابية اللبنانية في 15 دائرة انتخابية، ضمت نحو 6900 لجنة انتخابية، وشارك فيها 41% من بين نحو أربعة ملايين ناخب لبناني لهم حق الاقتراع، وبذلك نجحت حكومة ميقاتي التي تولت السلطة في العشرين من سبتمبر من العام الماضي، أي أنها قضت في الحكم ثمانية أشهر فقط، وبرغم الفراغ والتناحر وتراكم المشكلات في الفترة السابقة لها، إلا أنها نجحت في تنفيذ عدد من الشعارات والالتزامات التي قطعها رئيس الوزراء نجيب ميقاتي على نفسه عند توليه السلطة وفي مقدمتها شعار «معا للإنقاذ»، ثم الانفتاح على كل التيارات السياسية والطائفية اللبنانية وعلى مختلف القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان ومحاولة الاستفادة قدر الإمكان مما يمكن أن يقدمه أي طرف لصالح لبنان مع الحفاظ على مصالحه والحد من العقبات التي يواجهها والحفاظ على مقتضيات المصالح اللبنانية، والمؤكد أن شخصية رئيس الوزراء نجيب ميقاتي وما يتمتع به من خبرات وصفات قد ساعدت في ذلك، خاصة أنه أكد منذ البداية أنه «نجيب ميقاتي» وليس شخصا آخر، وبعد إجراء الانتخابات فإن حكومة ميقاتي هي الآن حكومة تصريف أعمال منذ 22 مايو الماضي وحتى تشكيل الحكومة اللبنانية القادمة على ضوء نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة.

* ثانيا: إنه مع الترحيب بالانتخابات اللبنانية، التي أعطت درسا آخر في حيوية المجتمع اللبناني، رغم معطياته السياسية والطائفية المعروفة والظروف المحيطة به، فإنه يمكن القول إن تلك الانتخابات قد عكست، بدرجة محسوسة، رغبة المجتمع والشعب اللبناني في التغيير والتطلع إلى تجاوز المشكلات التي يعاني منها بسبب قيادات سياسية وطائفية وصراعات مصالح على مستويات مختلفة. وإذا كان نواب التغيير - الداعون إلى التغيير السياسي وإلى رفض مختلف الأحزاب اللبنانية العاملة على الساحة اللبنانية - قد حققوا بعض النجاح، حيث حصل عدة نواب مستقلين من أنصار ثورة 17 تشرين 2019 التي دعت إلى رحيل الطبقة السياسية اللبنانية، على 12 مقعدا في مجلس النواب اللبناني الجديد، كما فقد حزب الله وتحالف 8 آذار (حزب الله وحركة أمل وحزب التيار الوطني الحر بزعامة ميشيل عون وعدد من المستقلين المرتبطين بحزب الله) نحو عشرة مقاعد لصالح حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، ولصالح دعاة التغيير، وقد ترتب على ذلك فقدان حزب الله وتحالف 8 آذار أغلبيته في مجلس النواب السابق -71 مقعدا- فقد حصل على 62 مقعدا، ثم فإن حزب القوات اللبنانية أصبح الحزب الحائز على أكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب اللبناني كحزب -18 مقعدا- وأصبح هو الحزب المسيحي الأكبر على حساب «حزب التيار الوطني الحر» بزعامة عون، مع بقاء مقاعد الطائفة الشيعية اللبنانية في يد حزب الله وحركة أمل دون تغيير. أما تيار 14 آذار - المستقبل - بزعامة سعد الحريري، فإنه يعد أكبر الخاسرين، وذلك نتيجة لما حدث قبيل الانتخابات، وتخلي سعد الحريري عن مهمة تشكيل الحكومة اللبنانية في عام 2021 قبل تولي نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة وذلك بسبب الخلافات بين تيار المستقبل وبين حزب الله، وبسبب تدخلات إقليمية أخرى ضد سعد الحريري، وقد انعكس ذلك كله على الطائفة السنية اللبنانية وعلى قدرتها داخل مجلس النواب الجديد، حيث فقدت تماسكها إلى حد كبير، وهو ما يؤثر على الأوضاع السياسية اللبنانية، وستتضح أبعاده خلال الفترة القادمة.

* ثالثا: إنه في الوقت الذي يتطلع فيه الشعب اللبناني الشقيق إلى تشكيل حكومة يمكنها التعامل الفعال مع المشكلات المتراكمة ومنها تفجير مرفأ بيروت في أغسطس عام 2020 وعدم القدرة على سداد الديون والتدهور الشديد لليرة اللبنانية وغيرها، ورغم دخول بعض نواب التغيير إلى مجلس النواب، إلا أن الواقع السياسي اللبناني يظل مشدودا - حتى الآن على الأقل - إلى ما حكم ويحكم الأداء السياسي له في ظل ميثاق 1943 واتفاق الطائف عام 1989، وتقاليد السياسة اللبنانية التي يلعب فيها زعماء الطوائف والأحزاب السياسية والقيادات الدينية دورا مهيمنا، وإذا أضفنا إلى ذلك نتائج الانتخابات الأخيرة، التي تعني ضرورة إعادة محاولة تشكيل تحالفات، سواء بالنسبة لحزب الله وتحالف 8 آذار، أو بالنسبة لحزب القوات اللبنانية، ومحاولة إعادة استجماع تماسك تيار المستقبل مرة أخرى، فإنه يمكن القول إن حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي ستستمر في الحكم عدة أشهر على الأقل وربما أكثر من المدة التي قضتها منذ توليها السلطة وحتى تحولها إلى حكومة تصريف الأعمال الشهر الماضي، ولا يعني ذلك أي تشاؤم في الواقع، ولكنها طبيعة لبنان وتعقد الصراعات وتقاطعات المصالح التي تجري على أرضه ومن حوله. ومع الوضع في الاعتبار أنه تم انتخاب نبيه بري رئيسا لمجلس النواب اللبناني الجدير، للمرة السابعة في رئاسة المجلس، وهو ما تم بالتنسيق مع حزب التيار الوطني الحر بزعامة ميشيل عون وعدد من الأحزاب الأخرى، فإن المشاورات السياسية الخاصة بتسمية الأحزاب والقوى المشكلة لمجلس النواب لرئيس الحكومة القادمة سيستغرق وقتا غير قليل، كما أن حزب القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع سيحتاج بالضرورة إلى قدر أكبر من المرونة والتوافق مع القوى السياسية اللبنانية الأخرى لتجاوز الخلافات الشديدة السابقة - أو بعضها على الأقل - من أجل إفساح الطريق أمام تشكيل حكومة لبنانية جديدة. وفي ظل الأوضاع اللبنانية الراهنة، وما يدور من اتصالات ومساومات وصفقات وضغوط عديدة ومتنوعة من ناحية، وفي ظل ما قدمته حكومة نجيب ميقاتي وما أثبته نجيب ميقاتي من قدرة على التعامل مع كثير من التعقيدات والمشكلات اللبنانية الداخلية والإقليمية والدولية الماسة بلبنان ومصالحه من ناحية ثانية، وفي ظل القبول العام بشخصية نجيب ميقاتي من ناحية ثالثة، فإنه من غير المستبعد أن يكون نجيب ميقاتي هو من تلتقي حوله المشاورات السياسية التي تبدأ خلال هذه الأيام باعتباره شخصية توافقية، وحتى تكمل القوى السياسية تشكيل تحالفاتها الجديدة، وإذا تم ذلك فسيكون في صالح لبنان اليوم وغدا وحتى لا تتفاقم المشكلات بشكل أكبر وأخطر.

د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري