لا تتمنوا الحرب

23 أبريل 2024
23 أبريل 2024

الحروب اليوم ليست كالأمس، والآلة المستخدمة في الحروب ليست كآلة الأمس أيضا، فآلة الأمس يمكن التّحكم بها إن كان ما يقود البشر هو العقل بمقدار ما يحفظ الذّات، ويدفع بلاء الاعتداء، ومع هذا سجل التّأريخ أحداثا سوداء من إبادة قرى، وقتل وسبي وتمثيل لأطفال ونساء وشيوخ وعجزة، فلم يخل التّأريخ من مثل هذه الصّفحات السّوداء، والّتي تجاوزت أدبيات «لا تقتلوا صبيّا، ولا امرأة، ولا شيخا كبيرا، ولا مريضا، ولا راهبا، ولا تقطعوا مثمرا، ولا تخربوا عامرا، ولا تذبحوا بعيرا، ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تغرقوا نحلا ولا تحرقوه».

أمّا حرب اليوم فلا تعرف ذلك كلّه، فالحرب بأدوات اليوم أقرب إلى حروب الإبادة، فليس هناك جيشان يلتقيان في ساحة معينة، فيقاتل المحارب، ولا يعتدى على المسالم، إنّ الحرب اليوم لا تفرق بين المسالم والمحارب، ولا بين الرّجل والمرأة، ولا بين الصّغير والكبير، فهي حرب تبيد الإنسان والجماد، الحيوانات والزّروع، ومع ما نراه من أدوات حربيّة مستخدمة، رغم بشاعة نتائجها؛ إلّا أنّ هناك ما هو أشدّ وأطغى، من أدوات وقنابل لو استخدمت لأبادت أمما في لحظة عين.

لهذا أتعجب ممّن يتمنى أن تكون هناك حرب عالميّة ثالثة، فعمان مثلا كغيرها من البلدان، الّتي لا علاقة لها جغرافيّا ولا عسكريّا بالحرب العالميّة الثّانية (1939 - 1945م)، ومع ذلك أصابها من الجوع والضّنك نتيجة الحرب، في حين تجاوز ضحايا العالم ستين مليون نسمة، فضلا عن التّشريد والمجاعة، وخراب أقطار بأكملها، فكيف لو قامت اليوم حرب عالميّة ثالثة، ماذا سيكون مصير العالم، وأدوات الحرب الفاتكة الّتي أنتجها العقل البشريّ اليوم لا يمكن بحال مقارنتها بأدوات الحرب العالميّة الثّانية؟

لهذا العاقل اليوم هو من يغلّب لغة التّعقل لا العاطفة، لغة السّلم وليس الحرب، لغة الإحياء وليس الهدم، لغة الرّقيّ الإنسانيّ لا الصّراع الحيوانيّ، وهذا لن يتحقّق اليوم مع الاعوجاج المتمثل في هيئة الأمم ذاتها، فما تمارسه دول «الفيتو» يقود إلى الاحتراب وليس السّلم، وإلى الظّلم العالميّ وليس العدل والسّلام العالميّ، وهذا يكرّر ما حدث لسلفها، أي عصبة الأمم المتحدة، فلمّا عقد مؤتمر باريس للسّلام (1919م) بعد الحرب العالميّة الأولى (1914 - 1918م)، والّذي خَلُص إلى إنشاء عصبة الأمم، والغاية منها تجنيب العالم ويلات الحروب، وحماقات السّياسيين، ولكنّها فشلت، فكانت الحرب العالميّة الثّانية، وهي أشدّ بلاء وفسادا عالميّا من الأولى، ويلخص ألبرت أينشتاين (ت 1955م) نتائجها في كلمته عام 1934م: «لقد وعدنا الشّعوب بالتّحرر من الخوف، ولكن الخوف قد زاد في الواقع... لقد وعدنا الشّعوب بالتّحرر من العوز، لكن أجزاء كبرى من العالم تواجه الفاقة والمجاعة، بينما تعيش البقيّة في رغد ووفرة، ولقد وعدنا الشّعوب بالتّحرير والعدل، ولكننا شهدنا ولا زلنا نشهد حتّى الآن المنظر الحزين لجيوش التّحرير وهي تصرع الجماهير برصاصها، إذ هي تطالب باستقلالها وحقوقها الاجتماعيّة في المساواة، وتساند تلك الجيوش بقوّة السّلاح الأحزاب والزّعماء الّذين يخدمون أغراضها الاستغلاليّة».

وفي عام 1945م كانت هيئة الأمم المتحدة كإصلاح وتطوّر لعصبة الأمم، وكان ميثاقها الّذي غايته «السّلام والعدالة والاحترام وحقوق الإنسان والتّسامح والتّضامن»، ومع هذا المتأمل في هيئة الأمم المتحدة، لا يزال مدركا أننا لا زلنا نعيش في تبعات الحرب العالميّة الثّانية، فالثّقل فيها لخمس دول، أمريكا وروسيا وفرنسا والصّين وبريطانيا، فلها حقّ الفيتو أو النّقض، كما لها الحق في تملك الأسلحة النّوويّة، والّتي تفتك بالبشر، فأمريكا ذاتها جرت العالم إلى حروب دمرت بها شعوبا بأكملها، وفي العقود الأخيرة مازال الواقع يدرك آثار حربها على أفغانستان والعراق مثلا، كما يدرك دعمها مؤخرا للإبادة في غزّة.

فلتحقيق السّلم أو السّلام العالميّ لابدّ من وجود إصلاحات في هيئة الأمم المتحدة ذاتها، ولابدّ من وجود ثقل دوليّ وجماهيريّ وثقافيّ يساهم في تحقيق هذه الإصلاحات، لتكون هيئة الأمم حافظة كما أرادت هي أولا، ويساندها في ذلك العقل والدّين والثّقافة ثانيا، أي الحفاظ على العدل والمساواة والإنسان والسّلام والتّضامن والحرّيّات، وما نراه اليوم من مصاديق وقرارات أمميّة يتعارض مع هذه القيم، وتقود العالم طبيعيّا إلى تشكل كتل دوليّة وعسكريّة، بحيث تقسّم العالم إلى حلفين أو ثلاثة تقوده إلى حرب عالميّة أخرى، لا تبقي ولا تذر، وتضع الأرض بلاقع من الدّمار والخراب، وتزيده تشريدا وفقرا.

وإذا كان الواقع يتطلّب بشكل طبيعيّ وجود دول الفيتو بعد حرب عالميّة ثانية حينها، وما جرّته ألمانيا خصوصا، ودول المحور عموما من بلاء في العالم أجمع؛ إلّا أنّه لا معنى له اليوم بعدما يقارب قرنا من الزّمن، فأصبح العالم أكثر وعيا وإدراكا من السّابق، والّذي قاد ويقود إلى الحروب والانغلاق والتّمييز في العالم دول الفيتو ذاتها، وتمارس اليوم ذات ما مارسته دول المحور سابقا، فمن الّذي يثير ويدعم الحروب في العالم، ومن الّذي يساند ما يؤدّي إلى الخراب، وعدم تحقّق العدالة، ومساندة الأصوليّات المنغلقة في العالم، لهذا نحن مع عدم تمني الاحتراب، ومع محاربة أيّ طريق يشعلها، وفي الوقت نفسه لن يكون ذلك إلّا بإصلاح هيئة الأمم المتحدّة، والحفاظ على القيم والحقوق والعدالة والمساواة الإنسانيّة بقدر متساو ومشترك في العالم أجمع، وأنّ نظام الفيتو اليوم يتعارض مع هذا كلّه، وإصلاحه بداية الطّريق إلى السّلم العالميّ.