كولومبيا وحرية التعبير وتدليل اليمين الأمريكي

21 أبريل 2024
21 أبريل 2024

ترجمة: أحمد شافعي -

تمضي الصحافة بالصحفيين عادة إلى الجبهات من أجل العثور على الخبر، لكن الجبهات في بعض الأحيان هي التي تمضي لتعثر على الصحفيين، ولم يحدث هذا لي مرة واحدة، وإنما حدث مرتين في يوم الخميس الماضي، حينما جرت معركة ملحمية حول حرية التعبير في الجامعات من أقصى منهاتن إلى أقصاها.

حدثت المرة الأولى عندما تصادف أن كنت في حرم جامعة كولومبيا في محاضرة أمام طلبة. وبينما أغادر القاعة، صادفت مخيما أقيم على أحد مروج الحرم الخصبة. كانت المظاهرة، شأن المظاهرات الجامعية، جادة وسلمية في آن واحد. إذ أقيم بضع عشرات الخيام وعلَّق الطلبة لافتة كتبوا عليها «معسكر التضامن مع غزة»، كانت أساليبهم أشبه بصدى معتدل لجيل أسبق من الطلبة قاموا فعليا بإغلاق الحرم في أبريل سنة 1985 مطالبين الجامعة بسحب استثماراتها من جنوب إفريقيا، وتلك المظاهرات بدورها كانت صدى لاستيلاء الطلبة سنة 1968 على الجامعة في غمار تمرد ثقافي كبير مناهض لحرب فيتنام.

في صباح يوم الخميس نظم الطلبة مسيرة دائرية، وطالبت هتافاتهم جامعة كولومبيا بسحب استثماراتها من إسرائيل احتجاجا على المجزرة الجارية في غزة التي مات فيها أربعة وثلاثون ألف شخص، أي أكثر من 1% من سكان غزة، وأغلب أولئك الموتى نساء وأطفال، كان المتظاهرون يحتلون حيزا كبيرا من المكان ويصدرون قدرا كبيرا من الصوت، وكانوا في نظر الجامعة يعتدون على أرض الكلية التي يدفعون الكثير للالتحاق بها، في حين إنه لم يبد أنهم يستهدفون أيا من زملائهم الطلبة ناهيكم عن أن يتسببوا لهم في أذى، وكان الحرم مغلقا دون الغرباء، ولم يبد احتمال للتصعيد. تابعت المشهد، ثم قفزت في قطار الأنفاق لأرجع إلى مكتبي.

ذهلت حينما علمت، بعد أقل من ساعة، أن رئيسة الجامعة نعمات شفيق طلبت من شرطة نيويورك إزالة المخيم الذي أقيم قبل أقل من 48 ساعة، وأعقب ذلك أضخم اعتقال لطلبة كولومبيا منذ عام 1968.

وعلمت أنني سوف أقابل أولئك الطلبة مرة أخرى: فأنا أعيش على مقربة من مقر شرطة نيويورك حيث غالبًا ما يحتجز الطلبة لاتخاذ الإجراءات، ومنذ السابع من أكتوبر وقعت مظاهرات منتظمة في منطقتي في ظل انتظار الناشطين الموالين لفلسطين إطلاق سراح أصدقائهم. ولما رجعت إلى البيت، كان جمع غفير قد تشكل بالفعل.

أغلب الطلبة الذين حاولت الحديث إليهم رفضوا إجراء مقابلة. وبعضهم وجه انتقادات فظة لتغطية الإعلام السائد لحرب غزة. وخشي غيرهم من أن يلحق الارتباط بحركة التظاهر ضررا بفرصهم المهنية. (وهم في نهاية المطاف طلبة نخبة الكليات الأمريكية). لكن في النهاية، قال لي كثيرون: إنهم مصممون على مواصلة التظاهر من أجل قضية يشعرون أنها المحدد للتحدي الأخلاقي في حياتهم.

سرعان ما أقيم شبه مخيم في منطقتنا أسفل شقتي، حيث انتظر الطلبة إطلاق سراح أصدقائهم. وساد جو احتفالي: فكثير من البيتزا وعلب الحلوى وصناديق مشروبات ومياه. أخذوا يسرفون في شرب القهوة واستعمال مستحضرات تدفئة الأيدي لمقاومة هواء بارد غير معتاد في منتصف أبريل مع اقتراب الغروب. ولم أر قطرة خمر أو أشم رائحة ماريوانا، وهي الرائحة الشائعة في كل مكان من شوارع منهاتن الدنيا. ولمحت رجلا يضفر شعر امرأة. ورأيت من يتوسدون مناشف مستلقين على بطانيات مستعدين لانتظار طويل.

كان الطلبة غاضبين بصفة خاصة من الرسالة الإلكترونية التي تلقوها من نعمات شفيق تخبرهم فيها ـ باللغة البيروقراطية الرسمية المتبعة أكاديميا ـ: إن ضباط شرطة مكافحة الشغب سوف يطردون زملاء لهم من الحرم: «فقد قلت دائما إن سلامة مجتمعنا هي أهم أولوياتي وإن علينا أن نحافظ على بيئة يتسنى لكل امرئ فيها أن يتعلم في سياق داعم» حسبما كتبت.

كتبت نعمات شفيق إلى شرطة نيويورك تطلب إخلاء الساحة معلنة أن المظاهرات «خطر ماثل صريح» على الجامعة. لو كان هناك خطر، فقد بدا أنه صعب على الشرطة العثور عليه. ففي تصريحات لصحيفة ذي كولومبيا ديلي سبكتيتور قال رئيس الدورية في قسم الشرطة جون تشيل: إنه لا توجد تقارير عن عنف أو إصابات. وقال: «من أجل وضع الأمر في سياقه، فإن الطلبة الذين تم اعتقالهم كانوا مسالمين، ولم يقاوموا بأي شكل، وكانوا يقولون ما يريدون قوله بطريقة سلمية».

بالنسبة للطلبة الذين تكلمت معهم، كان التذُّرع بالسلامة أمرًا مزعجًا بصفة خاصة؛ لأن الاعتقالات نفسها فعل عنيف، فضلا عن تلقّي كثير من الطلبة رسائل إلكترونية تخبرهم بأنهم موقوفون وممنوعون تلقائيا من السكن الجامعي، بما يجعلهم مشردين عمليا.

قال لي أحد الطلبة الكبار: «إن العنف الوحيد الذي مورس في الحرم هو حمل الشرطة الطلبة إلى السجن. لقد كانت المظاهرة سلمية تماما. في الليلة الماضية أقمنا حلقة رقص. لم يكن من عدوان أو عنف».

وقال لي آخرون: إنهم شعروا أن رسالة نعمات شفيق كانت واضحة ومرعبة.

قالت لي طالبة من المظاهرة المقامة أمام مقر الشرطة: «إن لدى البعض مساحة للألم. والبعض لا يشعرون بالألم». قالت: إن الطلبة المسلمين، بجانب العرب والفلسطينيين من مختلف العقائد، تعرضوا لاستهداف ظالم في الحرم، وحكت واقعة ظهر فيها مخبر خاص في غرفة السكن الجامعي الخاصة بطالب أمريكي من أصل فلسطيني.

وقال طالب آخر: «لا توجد جلسة استماع في الكونجرس بشأن الإسلاموفوبيا».

في اليوم السابق كانت نعمات شفيق قد انبطحت أمام الفريق الكريه المتمثل في مجلس النواب ذي القيادة الجمهورية، وفي شهادة أمام لجنة التعليم، بدا أن نعمات شفيق عازمة على اجتناب مصير اثنين من رؤساء جامعات النخبة أودى بهم اهتزاز أدائهم إلى الفصل، فألمحت إلى أنها لن تتردد في تأديب الأساتذة والطلبة الموالين للفلسطينيين بسبب خطابهم، وأشارت إلى أن استعمال شعار «من النهر إلى البحر» المتنازع عليه قد يكون وحده سببا لعمل تأديبي.

في عالم يوشك أن يبدو فيه أي شكل من أشكال مناصرة حق الفلسطينيين في تقرير المصير مخاطرة بتفسيره باعتباره معاداة للسامية أو دعوة إلى دمار إسرائيل، فإن تصريحات نعمات شفيق تعكر الأجواء. وقد استدعت أفعالها يوم الخميس توبيخا فوريا من أساتذة ومدافعين آخرين عن حرية التعبير في الحرم الجامعي.

بدا أن رئيسة جامعة كولومبيا تعتقد أن الانتهازيين الجمهوريين في جامعات النخبة من أمثال إيليس ستيفانيك سيرضون عن استعدادها للتضحية بالطلبة. وهو احتمال بعيد. ففي يوم الخميس أوردت صحيفة ذي نيويورك بوست أن الجماعة المناصرة لإسرائيل لم ترضَ عن ذلك: فاستأجرت شاحنات تحمل لافتات تطالبها بالاستقالة. فحملت اللافتات عبارة: «نحن هنا لمساعدتك في الرحيل».

لي من العمر ما يجعلني أتذكر حينما سيطر على الخطاب العام لدينا حديث عن رخاوة طلبة الجامعة، وعزوفهم عن مواجهة الحقائق الصعبة ونزوعهم إلى الأماكن الآمنة، وتحصنهم دون الأفكار التي تتحداهم. والآن يصمت كثير ممن ظلوا لسنين يسخرون من المخاوف على سلامة الطلبة السود والبنيين والهنود الحمر والمثليين، ويبرز صمتهم في ظل قيام رئيس جامعة حديدية القبضة بإرسال شرطة الشعب لاعتقال طلبة جامعيين لمحض اشتراكهم الحماسي في الحياة السياسية وتبنيهم موقفا في قضية أخلاقية مهمة.

فلو أن أغنى الجامعات لدينا، وأكثرها استقرارا وتنعما بالأوقاف الوفيرة، تعجز عن أن تكون قلاعًا لحرية التعبير ومنتديات لمعاركة أصعب الأفكار، فأي خير يرجى من بقية المؤسسات في بلدنا؟

إن الحرب الثقافية اليمينية على جامعات أمريكا جارية منذ فترة. وفي الآونة الأخيرة، ساعدت المخاوف المشروعة بشأن تصاعد معاداة السامية في دفع تلك القوى إلى تحالف غير مستقر يهدد جميع أشكال التعبير. ولقد وقع مديرو الجامعات، المرتعشون أمام رعاتهم الأقوياء والساسة من حركة (إعادة أمريكا إلى عظمتها)، في فخ يتعين عليهم فيه أن يكونوا على استعداد لاستدعاء القوات عند أدنى إشارة إلى الخلاف الذي ينطوي على سياسات يعتبرونها خطرا على «السلامة». وتشكل هذه القوى تهديدًا وجوديا لتراث عريق هو تراث التجمع الحر في الجامعات الأمريكية.

لكن هؤلاء الطلاب لن يرحلوا بهدوء.

فقد قال لي أحد طلاب الدراسات العليا في جامعة كولومبيا: «كلما أمعنوا في محاولات إسكاتنا، تزداد أصواتنا ارتفاعا».

في وقت متأخر من ليلة الخميس، برغم البرد القارس، ظل الحشد المواجه لمقر الشرطة كثيفا، يهتف ويصيح مع كل دفعة من الطلاب المعتقلين يجري إطلاق سراحها. وبالعودة إلى الحرم الجامعي، كان عشرات الطلاب الآخرين قد أقاموا بالفعل في حديقة مجاورة في ساحة جامعة كولومبيا، يتحدّون الجامعة أن تحاول مرة أخرى.

ليديا بولجرين كاتبة المقال من كتاب الرأي في نيويورك تايمز

خدمة نيويورك تايمز