كأس العرب والدروس المستفادة

21 ديسمبر 2021
21 ديسمبر 2021

(امتلاك الدول لوسائل إعلام دولية والإنفاق عليها لم يعد ترفا، وأصبح حاجة ملحة في عصر اندماج وسائل الإعلام والسماوات المفتوحة والإعلام الرقمي. ولا نبالغ إذا قلنا إن الإنفاق على مثل هذا الإعلام لا يقل في أهميته عن الإنفاق على الجيوش وشراء أحدث الأسلحة)

نجحت دولة قطر نجاحا كبيرا في تنظيم كأس العرب الذي اختتمت منافساته السبت الماضي بفوز المنتخب الجزائري بالبطولة، وهو ما يبشر بنجاح أكبر في استضافة العرس العالمي الكروي الأكبر، نهائيات كأس العالم لكرة القدم، المقرر أن ينطلق في الدوحة بعد عام تقريبا من الآن.

النجاح القطري في جمع المنتخبات والجماهير العربية في ملاعبها، لم يكن نجاحا رياضيا فقط، بل كان في جوهره نجاحا سياسيا منقطع النظير، يؤكد القدرة الفائقة للدولة الخليجية الصغيرة المساحة في توظيف كل إمكاناتها الاقتصادية والسياسية والإعلامية والرياضية لدعم قواها الناعمة، وتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، كما كان "بروفة" عملية أكدت استعدادها لاحتضان أكبر وأهم منافسة رياضية في العالم بعد أشهر قليلة.

من كان يظن قبل عام من الآن تقريبا وقبل المصالحة الخليجية التي أنهت سنوات من المقاطعة الرباعية الخليجية - العربية لقطر أن الدوحة سوف تستقبل منتخبات كل الدول تقريبا بما فيها الدول التي قاطعتها؟ إن ما فعلته قطر خلال السنوات الفائتة، وحصدت ثماره في كأس العرب يحمل الكثير من الدروس والعبر السياسية والإعلامية والرياضية وحتى الإنسانية التي يجب أن نتوقف أمامها وأن نتعلم منها. ولعل أول وأهم هذه الدروس المستفادة أن العرب، حتى المختلفين منهم، يمكن جمعهم في منافسات عربية - عربية، إذا ما وجدوا ووثقوا في سلامة نوايا من يقوم بذلك، ومن يمنح كل منهم الاهتمام والتقدير الكافيين والحوافز المادية والمعنوية المناسبة.

وقد نجحت قطر في تقديم كل صور الدعم المادي للمنتخبات المشاركة ووفرت الدعم المعنوي بإقناع الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) بوضع البطولة ضمن بطولاته العالمية، وفتحت ملاعبها لمختلف الجماهير العربية سواء المقيمة على أرضها أو القادمة من دول أخرى لدعم منتخباتها الوطنية. ويمكن لقطر ودول عربية أخرى أن توظف هذا النجاح في مبادرات، ما أحوجنا إليها في هذا الزمن، لجمع الشباب العربي في منافسات أخرى علمية وفنية وأدبية، إلى جانب المنافسات الرياضية.

ويتمثل الدرس الثاني في تأكيد حقيقة كثيرا ما تجاهلها العرب وكانت سببا لحالات عداء وخصومة طويلة وغير مبررة بين الأشقاء، وهي أنه لا عدو دائما ولا صديق دائما، خاصة في السياسة الدولية والعلاقات بين الدول. وعلى هذا يجب أن تُبنى سياسات دولنا العربية على أساس المصالح المشتركة، وليس على أساس العلاقات الشخصية الضيقة رغم أهميتها في بعض الأحيان. وعلى هذا الأساس أنهت الدول العربية الأربع التي كانت قد أعلنت مقاطعة قطر هذه المقاطعة عندما شعرت أن مصالحها المشتركة مع قطر يجب أن تكون لها الأولوية. وبعد قمة "العلا" عادت الدول الأربع عن المقاطعة، وزار بعض قادتها الدوحة، وتزينت أبنيتها الشهيرة بالعلم القطري في مناسبة العيد الوطني لقطر، وشاركت جميعها في كأس العرب.

أما الدرس الثالث المستفاد من نجاح كأس العرب في قطر، هو أنك تستطيع بالرياضة أن تكسب ما عجزت عن تحقيقه بالسياسة. فطوال سنوات المقاطعة كانت وسائل الإعلام في بعض دول المقاطعة تشن هجوما إعلاميا على قطر. صحيح أن هذه الوسائل ومذيعيها التي كانت تعمل تحت سمع وبصر دولهم، لم يكونوا فوق مستوى الشبهات، ولكن من المؤكد أنهم تركوا أثرا ولو محدودا على قطاعات من الشعوب التي كانوا يوجهون لهم الخطاب المعادي لقطر. وباستخدام القوى الناعمة المتعددة استطاعت قطر أن تحول اهتمام الجماهير العربية عن هذا الإعلام، إلى ما يعزز صورتها كدولة لا تشغل نفسها كثيرا بما يقال عنها في وسائل الإعلام، ولا تلتفت إلى ما يوجه لها من نقد على بعض الفضائيات، وتتجاهل أصحابه تماما ولا ترد عليهم، وتركز فقط على مشروعاتها الاستراتيجية وخططها المستقبلية واستعداداتها لاستضافة كأس العالم وتقديم أول نسخة عربية من البطولة العالمية. ولذلك كان من الطبيعي أن يتحول المشاهدون إلى شبكة "الجزيرة الإخبارية" بقنواتها المتعددة لمتابعة أحداث العالم، والي "شبكة بي إن سبورت" الرياضية والترفيهية لمتابعة الأحداث والمنافسات الرياضية المختلفة في العالم، إلى جانب الأفلام والمسلسلات وغيرها.

أما الدرس الرابع المهم والمتكرر هو أن الإعلام ذي الطبيعة الدولية القوى القادر على الوصول إلى العالم، أصبح يمثل سلاحا مهما وأداة لا غنى عنها في العلاقات الدولية، ودعم سياسات الدول والدفاع عن مصالحها في العالم، وبالتالي فإن امتلاك الدول لوسائل إعلام دولية والإنفاق عليها لم يعد ترفا، وأصبح حاجة ملحة في عصر اندماج وسائل الإعلام والسماوات المفتوحة والإعلام الرقمي. وربما لا نبالغ إذا قلنا إن الإنفاق على مثل هذا الإعلام لا يقل في أهميته عن الإنفاق على الجيوش وشراء أحدث الأسلحة.

إن نجاح تجربة الإعلام الدولي في قطر تؤكد لكل الدول العربية القادرة أنه لم يعد يكفي أن يكون لديك إعلام وطني يخضع لسيطرة الدولة ويخاطب الداخل فقط، بل يجب أن يكون لديك وسيلة أو أكثر من وسائل الإعلام الدولية الحرة العابرة للحدود والتي تستطيع أن تصل بك إلي كل مكان.

ومن المهم أن تبني هذه الوسائل الدولية سمعتها بعيدا عن القيود التي تكبل وسائل الإعلام الوطنية وتمنعها من نشر بعض الأخبار، والتعرض لبعض القضايا.

ويمكن القول إن قطر استطاعت أن تتوصل إلى "وصفة إعلامية" تناسب هذا العصر، بوجود وسائل إعلام وطنية موجهة للداخل يصدق عليها ما يصدق على وسائل الإعلام الوطنية في كل الدول العربية تقريبا، ووجود وسائل إعلام دولية متحررة إلى حد كبير من قيود النشر، وتعمل بمعايير مهنية وأخلاقية عالمية وتحقق وصولا جيدا للجمهور في عدد كبير من الدول. ومن خلال شبكة الجزيرة الإعلامية، وشبكة التلفزيون المدفوع بي إن الرياضية والترفيهية، وقمر الاتصالات سهيل سات، أصبحت قطر لاعبا رئيسيا في الإعلام الدولي، وهو ما مكنها من التأثير في السياسة العالمية عبر الإعلام، وساعدها في تعزيز صورتها على المستويين الإقليمي والدولي والدفاع عن مصالحها خاصة في فترة المقاطعة.

في تقديري أن قرار إتاحة مباريات كأس العرب مجانا على القنوات المفتوحة لم يكن قرارا رياضيا بل سياسيا في المقام الأول، أرادت قطر من خلاله أن تصل بالبطولة إلى كل بيت عربي حتى يشاهد الجميع حجم الإنجاز الذي تحقق سواء في إنشاء الملاعب التي سوف تستضيف بطولة كأس العالم، والبنية التحتية والبشرية التي أصبحت مؤهلة لاستضافة أكبر وأهم الأحداث العالمية الكبرى. ومن خلال هذه البادرة، استطاعت قطر أن تصل إلى قلوب وعقول ملايين المشاهدين العرب، وحققت تسويقا وترويجا لصورتها لم يكن ليتحقق لو أنفقت أضعاف تكلفة البث المجاني للبطولة.

لقد أحسنت قطر تنظيم البطولة العربية وقدمت من خلالها لقطات ستبقى في ذاكرة جماهير الكرة العربية التي أصبحت تطالب عبر شبكات التواصل الاجتماعي بأن يكون في كل دولة عربية ملاعب جميلة ذات أرضيات جيدة تشجع اللاعبين على الإبداع الكروي مثل الملاعب القطرية، وأن تركز كاميرات النقل التلفزيوني على صناع المتعة الكروية من لاعبين ومدربين وجماهير، وليس على القادة السياسيين الذين اعتادوا على مزاحمة الرياضيين على الأضواء عندما يتواجدون في الملاعب، مثلما تم مع أمير دولة قطر الذي لم يستغرق ظهوره على الشاشة أثناء مراسم تسليم الكأس للمنتخب الجزائري الفائز بالبطولة سوى دقيقتين فقط، وصاحبه فيها رئيس الفيفا.