قيمة الرّحمة والاغتراب اللّاهوتي

20 ديسمبر 2021
20 ديسمبر 2021

اللّاهوت شاع بكثرة في الثّقافة المسيحيّة، وارتبط بالطّبيعة المقابلة لناسوت المسيح، فهو عندهم العلم الّذي «يبحث عن الله وصفاته وشرائعه وأعمال عنايته، والعقائد الّتي يجب أن نعتقدها، والأعمال الّتي يجب أن نقوم بها»، وبعلم اللّاهوت نعرف العقائد الدّينيّة وما بينها من العلاقات [جيمس أَنِس، علم اللّاهوت النّظاميّ، ص: 16]، ويقابله في الثّقافة الإسلاميّة علم الكلام، وهو أخص من علم اللّاهوت، إلا أنّ كليهما غارقان في الاغتراب الماورائيّ أو الميتافيزيقيّ.

ولمّا نتحدّث عن اللّاهوت فنحن نتحدّث عن الجدل المترتب دراسة وتأريخا بعد الإقرار بوجود قوّة فاعلة في الكون، أي بمعنى ما بعد الله، من حيث الإغراق ابتداء في الأسماء ثمّ الإغراق في الصّفات، فمن حيث الوجود هناك ماهيّة مسبوقة بقوّة فاعلة، ولتقريب هذه الصّورة يحدث الجدل في تقريب صورة هذه القوّة الفاعلة من خلال أسماء وصفات مشخصنة، أي لها ما يماثلها من حيث الاسم في الإنسان، وإن اختلفت ماهيّة الصّفة، سواء كانت إيجابيّة في صفات الذّات، أم إيجابيّة وسلبيّة في صفات الفعل والإضافة أو الصّفات الخبريّة.

فلمّا نأتي إلى الرّحمة مثلا، ونستخدم الاغتراب الميتافيزيقيّ، سنعيش ابتداء في جدليّة الرّحمة ذاتها، فالجمهور من المتكلمين لا يرونها صفة ذات؛ لأنّ صفة الذّات «لا تجامع ضدّها في الوجود ولو اختلف المحل» [البهلانيّ، العقيدة الوهبيّة، ص 132]، أي لا تحتمل الضّد، والمتفق بين الجمهور «الحياة والقدرة والإرادة والسّمع والبصر والكلام، فزادت الماتريديّة صفة ثامنة وهي التّكوين» [نفسه]، ونفى المعتزلة صفة الكلام اكتفاء بالقدرة، بينما الصّفاتيون أو أهل الحديث توسّعوا في صفات الذّات والفعل والخبر، ويرون حصر الصّفات الذّاتيّة في سبع صفات مخالفا لسلف الأمّة.

هذا الاغتراب الميتافيزيقيّ سيتوسع أيضا حتّى مع الفريق الأول من حيث هل صفات الذّات هي الذّات أم خارجة عن الذّات، وفي الإرادة مثلا هل مريد بإرادة حادثة ثابتة لا في محل كما يرى المعتزلة، أم مريد بإرادة قديمة أزليّة كما يرى الأشاعرة، وهكذا في باقي الصّفات كالكلام والقدرة مثلا، وهو ذاته الخلاف بين أهل الحديث أو الصّفاتيين فيما يتعلق بالاسم والصّفة، أو ما بين المشبهة والمجسمة كما يسميهم خصومهم.

وإذا أتينا إلى الرّحمة بما أنّ صفة الذّات لا تحمل السّلب عكس صفة الفعل، وعليه عند الجمهور أنّ الرّحمة صفة فعل لا صفة ذات، «فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل، بمعنى أنّ الذّات توصف بهذه الصّفات عند ملاحظتها مع الفعل، وذلك كالخلق والرّزق ونظائرهما من الصّفات الفعليّة الزّائدة على الذّات بحكم انتزاعها من مقام الفعل، ومعنى انتزاعها، أنّا إذ نلاحظ النّعم الّتي يتنعم بها النّاس، وننسبها إلى الله سبحانه، نسميها رزقا رزقة الله سبحانه، فهو رزّاق، ومثل ذلك الرّحمة والمغفرة فهما يطلقان عليه على الوجه الّذي بيناه» [السّبحاني، الإلهيات، ص: 84]، وعند أهل الحديث أو الصّفاتيين «الرّحمة من صفات الذّات لله تعالى، والرّحمن وصف، وصف الله تعالى به نفسه، وهو متضمّن لمعنى الرّحمة» [موسوعة نظرة النّعيم، 6/ 2061].

وما حدث في علم الكلام الإسلاميّ من اغتراب ماورائيّ هو ذاته ما حدث في الأديان الأخرى، كما في اليهوديّة والمسيحيّة، بيد أنّه لمّا نقترب من النّصّ الأول عند جميع هذه الأديان نجدها تقرر قيمة الرّحمة في بعدها النّاسوتيّ والكونيّ الواسع، بعيدا عن الاغتراب الماورائيّ، فجميع هذه الأديان تقرر ابتداء أنّ جوهر العلاقة مع الله قائمة على المساواة، ومنها كانت علاقة الرّحمة ابتداء، ففي التّوراة السّامريّة يقرر الرّب لموسى – عليه السّلام – «ونادى الله: الله قادر رحمان ورؤوف، طويل المهلة، وكثير الإحسان والجميل، حافظ الإحسان لآلاف، غافر الذّنب والجرم والخطية» [سفر الخروج: الإصحاح: 34، آية: 6 - 7]، وبنحو هذا في توراة اليهود والعهد القديم: «أنا الرّبّ، الرّبّ إله رؤوف رحيم، بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء، أدّخر الإحسان، وأغفر الإثم والمعصيّة والخطيّة» [سفر الخروج: الإصحاح: 34، آية: 6 - 7]، مع إقرار التّوراتين أو العهد القديم في الآية نفسها الغضب الإلهيّ، لمن لم يتب واستمر في المعصية أي الإجرام.

وفي مزامير داود عند اليهود والمسيحيين في العهد القديم: «الرّب حنّان ورحيم، بطيء الغضب، ووافر الرّأفة، الرّب يغمر الجميع بصلاحه، ومراحمه تعمّ كلّ أعماله» [مزمور، المزمور المائة والخامس والأربعون، آية: 8 – 9]، وجاء في العهد الجديد من الكتاب المقدّس عند المسيحيين في الرّسالة إلى مؤمني أَفسُس: «أمّا الله وهو غنيّ في الرّحمة» [الإصحاح: 2، آية: 4].

وفي كنزا ربّا عند الصّابئة المندائيين في التّسبيح الأول: «هو الحيّ العظيم، مسرة القلب، وغفران الخطايا .... الحنان التّواب الرّؤوف الرّحيم».

وفي القرآن الكريم: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]، {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 55 – 56].

وفي الكتاب المقدّس عند السّيخيّة السّيليّ جرو ساحب، السّلم الثّالث: «إنّ الله مولانا دائم الوجود، وكذلك نظامه وعدله ذو الدّوام والاستقرار، أمّا نطقه فهو نطق المحبّة غير المتناهي» أي رحمته وإحسانه ومحبّته لا تنقطع عن عباده.

وفي نسائم الرّحمن من ألواح بهاء الله: «يا ابن الإنسان، عظمتي عظمتي إليك، وكبريائي رحمتي عليك، وما ينبغي لنفسي لا يدركه أحد، ولن تحصيه نفس، قد أخزنته في خزائن سري، وكنائز أمري، تلطفا لعبادي، وترحما لخلقي».

وإذا جئنا إلى القيمة ذاتها ومصاديقها في الواقع الاجتماعيّ والإجرائيّ الظّرفيّ فكثيرا نجد من الشّواهد على ذلك، منها مثلا في إنجيل متّى: «طوبى للرّحماء فإنّهم سيرحمون» [الإصحاح: 5، آية: 7]، «طوبى لصانعي السّلام، فإنّهم يدعون أبناء الله» [الإصحاح: 5، آية: 9]، «فإن غفرتم للنّاس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السّماويّ زلاتكم، وإن لم تغفروا للنّاس لا يغفر بكم أبوكم السّماويّ زلاتكم» [الإصحاح: 6، آية: 14 - 15].

وفي القرآن أيضا مثلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران/ 159]، {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النّور: 22].

والمتأمل في النّصوص المقدّسة المتعلقة بالرّحمة والمساواة مثلا سيجدها تقترب من الإنسان، وتسقط واقعها على الإنسان وعلاقته بالكون، وتبتعد عن الاغتراب الميتافيزيقي والماورائيّ، لتشكل خلقيات وأدبيات سامية، وروحا نستطيع بها التّعامل مع الأحكام الإجرائيّة الظّرفيّة، الّتي في ظاهرها تتعارض مع هذه القيم، كآية العهد الجديد: «لا تظنّوا أنّي جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا» [إنجيل متّى، الإصحاح: 10، آية: 34]، وآية القرآن الكريم: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التّوبة: 5]، فهذه آيات إجرائيّة، والآيات الإجرائيّة ظرفيّة متعلقة بالزّمكانيّة، وليست آيات مطلقة، فهي محكومة بالقيم الّتي دلت عليها النّصوص ذاتها؛ لأنّ القيم مطلقة، ومرتبطة بالماهيّة الإنسانيّة، وسابقة عن التّشريعات الإجرائيّة، فهذه مثلا تقرأ في سياقات الاعتداء، فهي حالة طبيعيّة في التّعامل البشريّ، وإلا الأصل كما جاء في إنجيل متّى نفسه: «وسمعتم أنّه قيل تحبّ قريبك، وتبغض عدّوك، أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، وباركوا لأعنيكم، وأحسنوا معاملة الّذين يبغضونكم، وصلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم» [الإصحاح: 5، آية: 43 - 44]، وفي القرآن نفسه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

فيجب على أصحاب الدّيانات أن يعمّقوا هذه القيم، ولا يقفوا عند حرفيّة النّصوص الإجرائيّة، وأن ينطلقوا من القيم ومنها الرّحمة، منفتحين على الواقع الإنسانيّ ككل.

وكما أنّ هذه القيم مرتبطة بالواقع الإنساني، لها ارتباط بالجانب الفرداني، فيشعر المرء بالسّكينة والطّمأنينة من حيث علاقته بربه، وعدله معه، ليشعر الأصل بذلك في مجتمعه، وما يتعلق بالمواطنة وحقوق الإنسان، لتتحقق كرامته واقعا، لا أن يستغل لمصالح فئويّة، وهوّيّات مصالحيّة، حيث المتأمل في النّص الأول: التّوراة – كنزا ربّا – الإنجيل – القرآن، يجد محدوديّة الاغتراب اللّاهوتي/ الماورائيّ/ الميتافيزيقيّ، وحضور الجانب النّاسوتيّ، لهذا حدث تضخم لدى جميع الأديان في النّص التّأريخي، وأحدث انقساما وصراعا مذهبيّا داخل الدّين ذاته، كما ولّد هوّيّات تنظر إلى الآخر بعين ضيقة، وتتوسع في تهميش الآخر، وتزكية الذّات، وامتلاك الحقيقة المطلقة.

وبعد عصر الأنوار، وفي القرون الأخيرة خصوصا بدأت قضيّة الأنسنة تتوسع أكثر، مربوطة بالفردانيّة والذّاتيّة وماهيّة الوجود الإنسانيّ، لهذا انتقلت مناقشة العديد من القيم والصّفات الكبرى كالعدل والحريّة والرّحمة مثلا من بعدها اللّاهوتي إلى البعد الإنسانيّ، ومن الصّراع حول الغيبيات والماورائيات إلى البحث في الموجودات والطّبيعيات، على مستوى الكون، وعلى مستوى الإنسان نفسه.

وليس المراد بالأنسنة هنا أي أنسنة الإله بمعنى شخصنته كليّا، وإخضاعه للعالم الشّهوديّ، ولكن بمعنى تعميق روح الصّفات الكاملة (الصّفات الإلهيّة) في البناء الإنساني، وبث هذه الرّوح في هذا الإنسان كما في الرّحمة من حبّ وإحسان وعطف وبناء وتسامح وتعايش وتعارف.

ومع أنّ الغنوصيين والفلاسفة حاولوا قديما تعميق الالتفاتة الإنسانيّة للماورائيات، من خلال نظريتين، أولاهما غنوصيّة عرفانيّة، والثّانية طبيعيّة سننية من خلال نظريّة الإنسان الكامل عند الغنوصيين، وهذا لا يكون إلا بالارتقاء من عالم الجسمانيّة والشّهوانيّة إلى عالم الإنسان الكامل، فيكون إسقاط الصّفات الإلهيّة من باب التّجلي في هذا الإنسان ورقيّه إنسانيّا.

وخلاصة ما سبق إنّ لقيمة الرّحمة أبعادا إنسانيّة مهمّة، تتعلق بفرادنيّة هذا الإنسان بشكل كبير جدّا، بيد أنّ صرف هذه القيمة المضافة عن مصاديقها الإنسانيّة، والانغماس بها في صراعات لاهوتيّة ماورائيّة يبعدنا كثيرا عنها، وقد تتحوّل ذاتها من قيمة إيجابيّة، إلى مصاديق وهميّة تخلق صراعا وتطرفا في المجتمع الإنسانيّ بمختلف أطيافه وأجناسه وأديانه. باحث عماني مهتم بقايا التقارب الإنساني ومؤلف كتاب «فقه التطرف».

إذا صرفت قيمة الرحمة عن مصاديقها الإنسانية وانغمست في صراعات لاهوتية قد تتحول قيمتها من إيجابية إلى مصاديق وهمية تخلق صراعا وتطرفا في المجتمع الإنساني