قمة مفصلية تعزز مسيرة التعاون الخليجي

20 ديسمبر 2021
20 ديسمبر 2021

ليس من المبالغة في شيء القول بأن القمة الثانية والأربعين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية بالرياض الثلاثاء الماضي، تعد في الواقع قمة مفصلية في مسيرة العمل الخليجي المشترك التي تم تدشينها في الخامس والعشرين من مايو عام 1981، أي قبل أكثر من أربعين عاما، وذلك من زاويتين محددتين، أولهما أن قمة الرياض اتسمت بأنها عززت التقارب واللحمة الخليجية التي كان لقمة «العلا « في يناير الماضي الفضل في تدشينها وتحقيق التئام الدول الست حول المائدة الخليجية وبمشاعر أكثر إيجابية ووعي بحقيقة أن المسيرة الخليجية هي الرافد الذي تصب فيه المصلحة المشتركة للدول الست الأعضاء في مجلس التعاون، والتي تحتاجها الدول الست على المستويين الفردي والجماعي أكثر من أي وقت مضى، وأنها كمسيرة مشتركة لا تتعارض مع قنوات وهياكل العمل المشترك الأخرى، ثنائية وجماعية، على أي مستوى من المستويات الأوسع إطارا من مجلس التعاون. وكانت للجولة التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في دول مجلس التعاون قبيل القمة أثرها الملموس في هذا المجال.

والزاوية الأخرى تتمثل في أن البيان المشترك، إعلان الرياض، الذي صدر في ختام اجتماعات أصحاب الجلالة والسمو قادة دول المجلس ومن ينوب عنهم، قد أكدت على جوانب وعناصر ذات أهمية بالغة في الالتقاء والتوافق التي تم إقرارها من جانب قادة الدول المشاركة في الاجتماعات، وعادة ما تفتح هذه البيانات الباب واسعا أمام إمكانية التطبيق والانتقال إلى الترجمة العملية لما يتم الاتفاق عليه في المجالات المختلفة، خاصة إذا كانت العلاقات بين الدول المشاركة تتسم بالقوة والعمق وبالالتقاء الموضوعي لوجهات النظر حول القضايا المختلفة، وهو ما يتوفر لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلى حد كبير. وفي ضوء ذلك فإنه من الأهمية بمكان الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

** أولا: إن من أبرز الجوانب الإيجابية التي توفرت للقمة الثانية والأربعين لقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي عقدت في الرياض الأسبوع الماضي، أن المملكة العربية السعودية الشقيقة قامت بدور حيوي ومحوري في إيجاد أجواء إيجابية من التوافق والتلاقي بين دول المجلس، لم تضع فقط نهاية لما كانت تعاني منه العلاقات بين الدول الأعضاء أو بعضها خلال السنوات الماضية، بغض النظر عما إذا كانت معلنة أو مكتومة، ولكنها هيأت أيضا أجواء أكثر إيجابية على مستوى دول وشعوب المجلس، وقد بدأ ذلك، كما سبقت الإشارة، من خلال قمة العلا لقادة مجلس التعاون في 11 يناير الماضي، بإعلان إنهاء القطيعة بين بعض دول المجلس ومصر وبين دولة قطر، بعد نحو اربع سنوات من التباعد، ثم استمر هذا التطور الإيجابي خلال الأشهر الأحد عشر الماضية، ليحقق مزيدا من التقارب والتلاقي والفهم المشترك بين الدول الست، ثم جاءت جولة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والتي شملت دول المجلس قبيل القمة لتؤكد على هذا البعد، ولتكمل جهودا حثيثة ومتواصلة بذلتها القيادة السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز على امتداد العام تحضيرا للقمة الثانية والأربعين ولضمان نجاحها ووصولها إلى غاياتها المنشودة.

وليس من المبالغة في شيء القول بأن جولة ولي العهد السعودي في دول المجلس قبيل القمة قد أعطت دفعة قوية لخروج قمة الرياض على النحو الذي خرجت به، والذي عبر عنه وجسده إعلان الرياض، وهو ما شاركت فيه بالتأكيد سلطنة عمان ودول المجلس الأخرى.

ومن ثم فقد توفرت الإرادة السياسية الجماعية لدول المجلس للانتقال بالعمل الخليجي المشترك إلى مرحلة جديدة، أكثر تطورا وعملية، وأكثر اقترابا من اهتمامات شعوب دول المجلس، وأكثر وعيا أيضا بضمانات واحتياجات نجاح العمل المشترك بين دول مجلس التعاون، وبالخطوات العملية الضرورية على طريق الوصول للأهداف المنشودة. وباختصار شديد فقد توفرت بالفعل إرادة سياسية مشتركة وجماعية للدول الست، وكذلك رغبة حقيقية في إنجاح مسيرة التعاون الخليجي ودفعها للأمام وتجاوز العثرات بقوة أكثر من أي وقت مضى. ومع الوضع في الاعتبار أن مجمل التطورات الخليجية والإقليمية والعربية والدولية التي جرت في الأشهر الماضية والتي لا تزال تجري خلال الفترة الحالية قد أسهمت بشكل أو بآخر في الدفع في هذا الاتجاه، وفي الإقناع بأهمية تحقيق فهم أعمق ووعي مشترك أكبر بين دول المجلس حول سبل مواجهة التحديات المشتركة التي تفرض نفسها على المنطقة، إلا أن ذلك لا يقلل أبدا من الرغبة الفردية والجماعية المشتركة بين دول مجلس التعاون في العمل من أجل إنجاح مسيرة التعاون الخليجي وتقويتها لتتحول إلى قاعدة مشتركة للتعامل مع مختلف القضايا والتحديات، وبروح أكثر جماعية وأكثر تماسكا من أي وقت مضي، خاصة وأن بعض التحديات كادت تؤثر على بعض دول المجلس، في وقت أظهرت فيه القوى الدولية الداعمة لدول المجلس والمرتبطة بها تقاعسا واضحا ونية معلنة لتغيير أولوياتها على نحو أو آخر، وهو ما يجعل دول مجلس التعاون الخليجي تفكر بشكل اكبر وأكثر واقعية في ضرورة الاعتماد على الذات، أو على الأقل السير في هذا الطريق بقدر ما تمكنها ظروفها والأوضاع المحيطة بها على نحو أكبر وأوسع وأكثر شمولا من أي وقت مضى، والمؤكد أنه لا يمكن تحقيق ذلك بشكل عملي إلا من خلال مسيرة العمل الخليجي المشترك، وعلى نحو يقوم فيه مجلس التعاون بتمثيل والتعبير عن المصلحة الجماعية لدول المجلس مع مختلف الأطراف والقوى الإقليمية والدولية الأخرى.

وتجدر الإشارة إلى انه ليس من الصحيح، ولا من الحكمة تصور أو الزعم بأن قمة الرياض فتحت المجال أمام إمكانية الاتحاد الكونفيدرالي بين دول المجلس الست، نعم أشار إعلان الرياض إلى ضرورة دفع الوحدة الاقتصادية ومنظومة الأمن المشترك بين دول المجلس والتكامل فيما بينها في مختلف المجالات وتفعيل ودفع صيغة الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة وتفعيل الاتفاقيات الموقعة بين دول المجلس، بما في ذلك الدفاع والأمن المشترك بين دول المجلس، ولكن ذلك لا يعني القول أن دول المجلس عادت إلى الحديث عن الانتقال من صيغة التعاون إلى صيغة الاتحاد، كما قد يتصور البعض، ولكن الأكثر موضوعية هو أن دول مجلس التعاون تركت المجال مفتوحا لتطوير التكامل فيما بينها، ومنحه الفرصة ليسير إلى أقصى مدى ممكن في المستقبل، ووفق ما تراه الدول الست ملائما لها، وبما يخدم مصالحها جميعها، وفي إطار ما تعارف عليه من السرعات المتعددة، التي تراعي قدرات دول المجلس المختلفة، بحكم تنوع المستوى الذي حققته في إطار التنمية الشاملة وبرامج التطوير لكل منها في المجالات المختلفة. وعادة ما يكون التكامل الاقتصادي هو القاطرة التي تقود جوانب التكامل الأخرى، الأمنية والسياسية والدفاعية، بحكم ما تخلقه من مصالح مشتركة ومتبادلة تتطلب العمل لاستكمال التنسيق بشأنها وحمايتها وتعزيز موقفها الجماعي في التعامل مع الأطراف الأخرى إقليمية ودولية.

** ثانيا: أنه في الوقت الذي يشكل فيه التعاون والتكامل العماني السعودي، والعماني القطري، وبين دول المجلس بوجه عام ركيزة أساسية وقوية لدفع مسيرة العمل الخليجي المشترك بقوة وفعالية أكبر، فإنه ليس من قبيل الصدفة أن يشير إعلان الرياض إلى عناصر حيوية لتعزيز العمل الخليجي المشترك، وهي عناصر طالما أكدت عليها سلطنة عمان، سواء على المستوى العلني، أو في الاجتماعات الخليجية والعربية والإقليمية والدولية التي تشارك فيها، وذلك منذ سنوات طويلة. وفي هذا الإطار فإن ما تضمنه إعلان الرياض يحظى بأهمية كبيرة، بغض النظر عن الموقع أو الترتيب الذي تم به. صحيح أن ترتيب البنود والفقرات يحمل نوعا من ترتيب الأولويات بالنسبة للدول الموقعة على الإعلان أو البيان المشترك، ولكن الصحيح أيضا هو أن النص على بند معين يعني التوافق والالتقاء بشأنه، سواء كان ذلك في بداية أو وسط أو في نهاية البيان المشترك. ومما له أهمية ودلالة عميقة أن إعلان الرياض نص من بين فقراته على «أكد المجلس الأعلى على احترام مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، استنادا للمواثيق والأعراف والقوانين الدولية، وأن أمن دول المجلس رافد أساسي للأمن القومي العربي وفقا لميثاق جامعة الدول العربية». كما أكد على مواقف دول المجلس «الرافضة للتدخلات الأجنبية في الدول العربية من أي جهة كانت، ورفضه لأي تهديد تتعرض له أي دولة عضو، مشددا على أن أمن دول المجلس كل لا يتجزأ وفقا لمبدأ الدفاع المشترك ومفهوم الأمن الجماعي والنظام الأساسي لمجلس التعاون واتفاقية الدفاع المشترك» . كما أكد إعلان الرياض على موقفه وقراراته تجاه الإرهاب والتطرف «ونبذه كافة أشكاله وصوره، ورفضه لدوافعه ومبرراته والعمل على تجفيف مصادر تمويله ودعم الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب. وأكد على أن التسامح والتعايش بين الأمم والشعوب من أهم المبادئ والقيم التي بنيت عليها مجتمعات دول المجلس وتعاملها مع الشعوب الأخرى».

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه المبادئ والقيم التي أكد عليها إعلان الرياض، إنما هي قيم ومبادئ أخذ بها النظام الأساسي لمجلس التعاون منذ تأسيسه، كما تبنتها وعملت والتزمت بها سلطنة عمان منذ بداية مسيرة النهضة العمانية الحديثة في عام 1970 واستمرت عليها حتى الآن بوضوح وشفافية في التعامل مع مختلف التطورات، وفي كل جهودها المعلنة وغير المعلنة لتحقيق التقارب والوئام وحل المشكلات وتحقيق السلام والاستقرار لدول وشعوب المنطقة ومن حولها، وهو ما اصبح الجميع يدرك أهميته وضرورته، بل ويقدر التزام سلطنة عمان به دوما وفي كل الظروف وبما يساعد في كل جهد إيجابي لحل المشكلات وإنهاء الخلافات عبر الحوار الإيجابي وبالطرق السلمية، وقد أكد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- على الاستمرار في هذا الالتزام خليجيا وعربيا وإقليميا ودوليا.

من جانب آخر فان إعلان الرياض أكد في مقدمة فقراته وبنوده على جوانب ذات أهمية بالغة بالنسبة لحاضر ومستقبل مسيرة التعاون الخليجي، وذلك بالتأكيد على «أهمية التنفيذ الدقيق والكامل والمستمر لرؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لتعزيز العمل المشترك واستكمال مقومات الوحدة الاقتصادية والمنظومتين الدفاعية والأمنية المشتركة وتنسيق المواقف بما يعزز تضامن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي ويحافظ على مصالحها ويجنبها الصراعات الإقليمية والدولية ويلبي تطلعات مواطنيها وطموحاتهم ويعزز دورها الإقليمي والدولي وذلك من خلال توحيد المواقف السياسية وتطوير الشراكات السياسية على المستوى الإقليمي والدولي». كما أشار الإعلان إلى ما تضمنته المادة الثانية من اتفاقية الدفاع المشترك لدول المجلس لدول مجلس التعاون، وكذلك الالتزام بالعمل الجماعي لمواجهة كافة التهديدات والتحديات. هذا فضلا عن الإشارة إلى جوانب تنموية عديدة ذات أهمية بالغة لحاضر ومستقبل العمل المشترك، وكذلك ما يتصل بالسعي إلى إيجاد حل سلمي في اليمن والحفاظ على وحدة وسيادة العراق وسلامته الإقليمية. ومن خلال هذه العناصر جميعها تكون دول المجلس قد أكدت على ما يجمع بينها من روابط والتزامات وما تؤمن به من مبادئ وقيم مشتركة.

** ثالثا: انه مع الوضع في الاعتبار ما جاء في المؤتمر الصحفي لوزير الخارجية السعودي والأمين العام لمجلس التعاون في ختام قمة الرياض، وهو ما يساعد في الواقع على فهم أبعاد ما جاء في إعلان الرياض، فانه من الأهمية بمكان الإشارة إلى حقيقة أساسية هي أن إعلان الرياض وفر الأرضية الضرورية واللازمة لدفع مسيرة التعاون والتكامل بين دول المجلس خطوات أخرى وأكثر فعالية وذلك من خلال بنوده وعناصره التي تم الإشارة إلى بعضها، غير أن الانتقال من البعد النظري إلى الأبعاد العملية للتطبيق والالتزام بما جاء في إعلان الرياض إنما يعود إلى الدول الأعضاء والإرادة السياسية لكل منها ولذا فان الكرة هي في ملعب الدول الأعضاء ومن المأمول أن تتخذ الدول الأعضاء ما يتطلبه تفعيل مسيرة المجلس والدفع بها إلى الأمام وتجاوز أية حساسيات أو تحفظات أو مآخذ من جانب هذا الطرف أو ذاك حيال ما تم التوافق بشأنه وذلك حتى تتوفر لمسيرة المجلس القدرة على الانطلاق بقوة تتضافر فيها إرادات وقدرات الدول الست لتحقيق مصالحها جميعها وفي المستقبل على نحو شامل ومتبادل ومتوازن أيضا وبما يعزز الثقة والتقدير المتبادل للمصالح الفردية والجماعية لكل دول المجلس.

(إعلان الرياض وفر الأرضية الضرورية واللازمة لدفع مسيرة التعاون والتكامل بين دول المجلس، غير أن الانتقال من البعد النظري إلى الأبعاد العملية للتطبيق والالتزام إنما يعود للدول الأعضاء والإرادة السياسية لكل منها)