قمة جدة.. نهاية شائعات لا أساس لها!

25 يوليو 2022
25 يوليو 2022

تعتبر مؤتمرات القمة من أهم الأدوات السياسية والديبلوماسية في إدارة وتوجيه وتطوير العلاقات بين الدول، ليس فقط لأنها تتوفر لها كل أدوات الدعم والمساندة من جانب مؤسسات الدول المشاركة فيها؛ حيث ترغب كل دولة في إنجاح مشاركة رئيسها أو ممثلها في القمة، وفقًا لحساباتها ومصالحها بالطبع، ولكن أيضًا لأن مؤتمرات القمة، بحكم المشاركين فيها وبما يتمخض عنها من نتائج، تتكفل عادة بإيضاح جوانب وإبراز مؤشرات تتصل بحاضر ومستقبل العلاقات بين الدول المشاركة فيها على نحو أو آخر، وبالنسبة لجولة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي زار خلالها إسرائيل والضفة الغربية والمملكة العربية السعودية التي استضافت قمة "جدة للأمن والتنمية" التي شارك فيها قادة -أو ممثلو- دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومصر والأردن والعراق مؤخرًا، فإنه يمكن الإشارة إلى ما يلي:

أولا: إنه ليس غريبًا ولا مفاجئًا أن تكون إسرائيل هي الرابح الأكبر من جولة بايدن، التي بدأها بزيارة إسرائيل يومي 13 و14 يوليو الجاري، حيث شكر يائير لبيد رئيس وزراء إسرائيل الرئيس بايدن على ما أبداه من مواقف ومساندة لإسرائيل، ومن أبرزها التعهد بالحفاظ على أمن إسرائيل وعلى تفوقها العسكري النوعي في المنطقة من ناحية، وعلى الوصول إلى نهاية الشوط بالنسبة للبرنامج النووي الإيراني والتأكيد على العمل على منع إيران من امتلاك أسلحة نووية واستخدام الإمكانات الوطنية الأمريكية من أجل تحقيق هذا الغرض، مع الحديث المباشر عن خيار استخدام القوة كخيار أخير عند الضرورة، وهو ما يعد أقوى وأكثر التزام أمريكي وضوحًا ومباشرة على مستوى الرئيس الأمريكي من ناحية ثانية. وذلك له علاقة بأن بايدن مقبل على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر القادم وأن هناك قلقًا من أن تؤدي نتائج الانتخابات إلى خسارة الحزب الديمقراطي للأغلبية في الكونجرس، مما يستدعي حشد كل عناصر الدعم للإدارة الحالية وهو ما يمكن أن تسهم إسرائيل في تحقيقه من خلال أذرع الضغط الموالية لها في المجتمع الأمريكي. يضاف إلى ذلك أن بايدن الذي التقى الرئيس الفلسطيني في بيت لحم يوم الخميس قبل الماضي، والذي تحدث عن تأييده لحل الدولتين وعن إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وذات سيادة، والذي قدم 200 مليون دولار لدعم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين -الأنروا- وكذلك تقديم 100 مليون دولار كدعم ومساندة للمستشفيات الفلسطينية في القدس، قد اغلق الطريق في الواقع أمام إمكانية استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المتوقفة منذ عام 2014 وذلك بحديثه عن أن الظروف ليست مهيأة الآن لاستئناف المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل وربط إمكانية الاستئناف في المستقبل بما يمكن أن تسهم به محاولات تعزيز وتطوير العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، حيث أكد بايدن دعمه للعمل في هذا الاتجاه. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس اعرب أمام بايدن عن استعداده لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل وعن أمله في رفع منظمة التحرير الفلسطينية من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية، غير أن بايدن أشار فقط إلى انه سيبحث مسألة فتح قنصلية أمريكية في القدس، دون تقديم التزام واضح في هذا الشأن. أما حديث "لبيد" عن السلام، فإنه يعني السلام بالمفهوم الإسرائيلي، وليس السلام العادل والشامل وفق حل الدولتين ووفق قواعد القانون والشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية المطروحة قبل نحو عشرين عامًا. وفي المحصلة النهائية تكون إسرائيل هي الرابح الأكبر.

ثانيًا: إنه مع الوضع في الاعتبار ما تخلل جولة بايدن وقمة جدة من إجراءات وعلامات رمزية لا تخطئها العين، فإن قمة جدة سبقتها مجموعة قمم على المستوى الثنائي بين الرئيس الأمريكي وعدد من قادة وممثلي الدول التسع، وذلك لبحث جوانب العلاقات بين واشنطن وكل من الدول التي شاركت في هذه القمم الثنائية. وبينما شكلت القمة الأمريكية السعودية بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان جانبا حيويا في جولة بايدن، خاصة فيما يتصل بأمن الطاقة ورغبة واشنطن في زيادة الإنتاج السعودي اليومي من النفط، وكذلك تجاوز أية رواسب في العلاقات الأمريكية السعودية والتمهيد لانطلاقة جديدة في العلاقات بين الرياض وواشنطن في السنوات القادمة، وهو ما أشارت إليه السفيرة السعودية لدى واشنطن، فإنه يمكن القول إن بايدن نجح في هذا الجانب، خاصة مع إعلان ولي العهد السعودي أن الرياض قررت رفع حجم إنتاجها من النفط إلى 13 مليون برميل يوميًا، وأن ذلك هو أقصى طاقة إنتاجية ممكنة للسعودية، بمعنى أنه لن يمكن زيادة الإنتاج عن ذلك في المستقبل. وفي ظل ما يمكن أن يترتب على هذا القرار من نتائج بالنسبة لمجموعة "أوبك بلس" والتنسيق مع روسيا والدول الأخرى المشاركة فيها بالنسبة لإنتاج النفط في الفترة القادمة، فإن التوقيع على 18 اتفاقية ومذكرة تفاهم بين مؤسسات ومصانع وشركات أمريكية ونظيراتها السعودية لدعم وتطوير التعاون بين الجانبين في مجالات الطاقة والفضاء والتكنولوجيا والاتصالات وغيرها أعطى دفعة للعلاقات الأمريكية السعودية، ومن غير المستبعد أن تكون القيادة السعودية قد آثرت، وببعد نظر معهود، الانتظار حتى تتضح فرص وآفاق الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، وفي ضوئها تتحدد الجوانب الأخرى للعلاقات مع واشنطن. وبالنسبة للدول العربية الأخرى التي التقى بايدن مع قادتها قبيل جلسات قمة جدة، فان الرئيس الأمريكي قدم بعض المزايا أو المساعدات المالية، أو الدعم السياسي لمواقف هذه الدول ولدورها في المنطقة وبالنسبة للعمل على حل المشكلات القائمة وإنهاء الحروب والدفع نحو توسيع نطاق التعاون والعلاقات مع إسرائيل "وإسقاط الحواجز" في العلاقات معها في الفترة القادمة وقد تكفلت البيانات الختامية الثنائية بإيضاح الكثير في هذا المجال.

ثالثا: إنه إذا كان الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل هو ديدن كل الإدارات الأمريكية على مدى العقود الماضية، فإنه من المؤكد أن قمة "جدة للأمن والتنمية" قد وضعت نهاية لشائعة راجت وانتشرت قبيل القمة، وهي المتعلقة بإقامة أو تأسيس ما يسمى "الناتو العربي" والتنسيق مع إسرائيل في هذا المجال بشكل أو بآخر ضد إيران وبرنامجها النووي. وعلى عكس تصريحات بايدن في إسرائيل ضد إيران وضد برنامجها النووي، فإن قمة جدة قد خلت من مثل تلك الإشارات، وهو أمر بالغ المعنى والدلالة، فإلى جانب أن وزير الخارجية السعودي "فيصل بن فرحان" قد أشار إلى أنه ليس هناك ما يسمى بالناتو العربي، وأن الأمر لم يطرح، كما لم يطرح أي تعاون أو تنسيق مع إسرائيل، فإن تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بشأن إيران "كجارة وعن رغبة في تطوير العلاقات معها" لتكون "جزءًا من الرؤية "في إطار ما ينبغي أن ترتكز عليه العلاقات من مبادئ، وكذلك تصريحات بعض قادة الدول المشاركة في القمة، ورفض كل منهم الانضمام إلى تحالفات تستهدف إيران، وعدم السماح باستخدام دولهم للعمل ضد إيران أو أي من الدول المجاورة لهم، وضع نهاية فعلية لهذه الشائعة الماكرة التي لا تخدم سوى إسرائيل وتتعارض مع مصالح دول وشعوب هذه المنطقة الحيوية، وموقف سلطنة عمان في هذا المجال هو موقف واضح ومحدد وراسخ منذ سنوات طويلة، وقد سبقت الإشارة إليه في مناسبات عديدة. جدير بالذكر، أن البيانات الختامية الثنائية وكذلك البيان الختامي لقمة جدة قد اختارت بدقة كلماتها التي تشير إلى إيران، وسارت جميعها على طريق الحرص على علاقات أفضل مع إيران، وعلى أهمية وضرورة الالتزام بمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وحل المنازعات بالطرق السلمية، والعمل على إخلاء منطقة الخليج من أسلحة الدمار الشامل والتعاون من أجل ازدهار المنطقة، وتقدم شعوبها. وعلى عكس موجة التهييج المتعمدة قبيل القمة، فقد تبخرت شائعة "الناتو العربي" والتعاون العسكري مع إسرائيل، وذلك لأسباب موضوعية ولمصالح عملية تدركها قيادات الدول العربية بوجه عام التي شاركت في قمة جدة بوجه خاص. نعم قد تميل دولة وأخرى إلى التعاون الأكبر أو الأعمق مع إسرائيل في مجال أو آخر لحسابات خاصة بها، ولكن الصحيح أيضا هو أن تلك الدول تحرص على التأكيد على أن خطواتها لا تستهدف إيران ولا أي دولة ثالثة. أما التعاون بين دول مجلس التعاون في مجال الدفاع الجوي والطيران وغيره فإن هناك اتفاقية الدفاع المشترك بين دول مجلس التعاون وكذلك برامج التدريب المشتركة وإذا كانت دول مجلس التعاون لم تتحمس لإعلان دمشق بعد حرب تحرير الكويت عام 1991، فإنه من غير المتصور أن تفتح المجال أمام تعاون عسكري مع إسرائيل وضد إيران، وذلك لأسباب عديدة تعود إلى الماضي والحاضر، وتمتد إلى المستقبل، وفي ظل حتمية الجغرافيا، وعمق التاريخ والوشائج المشتركة بين إيران ومصر والدول العربية الأخرى.