في مستقبل عالمنا الافتراضي!

02 نوفمبر 2022
02 نوفمبر 2022

إذا كان من أهم معالم سطوة النموذج الكلاسيكي للدولة القومية؛ قدرتها على أن تكون إطارا كليا تطرد حياة الناس فيه برسم الهوية الجامعة، وبحيث يتشكل فيها الإنسان بتوقعات مشتركة نابعة من تلك الهوية التي تصوغها الدولة بما يشمله ذلك، من نظام للغة والتعليم والذاكرة والتاريخ والمستقبل، فإن الاهتزازات التي تضرب المفهوم الكلي لهذه الدولة اليوم، تطرح خيارات غامضة عن مستقبل مفهوم العيش المشترك لتلك الدولة ضمن إطار الذاكرة الجمعية والتعليم الذي يمنح المواطنين ذاكرة معرفية لمنهج عام في المعارف المنظمة.

يتحرر عالمنا اليوم بسرعة نحو التذرر في فضاء المعرفة الإلكترونية، وأصبحت الفردية فيه ليس دلالة عامة عن حياة خاصة فحسب، بل شملت، فيما شملت اختيارات للمعرفة ومنهجيات للنظر إلى العالم بعد أن وفرت ثورة المعلوماتية والاتصال فرصا قوية وخيارات واسعة للمعرفة المرنة والمتعددة الوجهات.

لم يختبر الإنسان الحديث هوية للمعرفة بهذا التذرر والتحدي الذي حدث مع الانفجار الهائل لثورة المعلوماتية والاتصال منذ تسعينيات القرن الماضي. وإذا كانت التجربة الجماعية الأكبر للإنسان منذ القرن التاسع عشر هي ما عاشه من مفردات انتظامه المدني في تجربة الدولة القومية التي ظلت تعيد تشكيل حياته، حسيا، باستمرار وفق هويتها الجامعة، فإن تحديات الإنسان اليوم تحديات رأسية تختبر في مفرداتها وعيا افتراضيا له قابلية للتحقق إلى درجة يمكن القول معها؛ أن ثمة تداخلا كبيرا بين عوالم ظلت متقاطعة في حياة الإنسان.

فالنمط الذي تطرحه إغراءات وسائط التواصل الاجتماعي، يعكس وفرةً تبدو في ظاهرها خيارا مغريا لكن من ورائها توجيهات حريرية وإيحاءات توحي للكثير بسحرها في نفس المتلقي، ليصبح هذا الأخير معها أقرب إلى الشخص المسحور منه بالشخص المستقل في مواقفه الحياتية.

إن تذرر البشر في تفاعلهم المطرد مع الوسائط الحديثة لثورة المعلوماتية والاتصال تنعكس سماته الأولى منحى فردانيا وسلوكا ذاتيا، لكنه مع الوقت والمزيد من التفاعل ستكون هوية الفرد المغرقة في فرديتها جزءا من تصميم سيبدو أنه النموذج المتواطأ عليه دون اتفاق، لكن، في الوقت ذاته، وفق تجربة مشتركة.

وإذ لا تزال الهوية الاتصالية الجديدة للبشر مع ثورة المعلوماتية والاتصال في بداياتها فإن البشر في هذه الحالة من طور التجريب سيكونون في اختبار قد لا يدركون نتائجه وفرزه الذي سيحتاج إلى زمن كاف من أطوار التجربة الإنسانية.

ففي المحيط الذي تبتلع فيه شبكة الإنترنت فضاء جديدا للبشر ثمة ما سيسقط (مع إدمان ذلك الفضاء) من خبراتنا القديمة كبشر في التواصل الإنساني الذي ظللنا نوازن به بين فرديتنا وهويتنا المجتمعية، في حياة ما قبل ثورة المعلوماتية والاتصال، ومع مرور الزمن؛ في زمن الافتراضيات هذا قد لا يمكن للإنسان - على الأرجح - أن يتنبأ بمصيره في المستقبل لأنه- والحال هذه - سيكون كما لو أنه جزء من طرفي معادلة للذات والموضوع أي من حيث كونه إنسانا فحسب.

عالم اليوم الذي نرى فيه «معجزات» إلكترونية صغيرة لم يسبق لها مثيل، من جراء الوفرة التي تمنح الأذكياء فرصا للغنى والإثراء الفاحش كما لم تسنح لإنسان من قبل، هو ذاته العالم الذي سيغيرنا باستمرار لإسقاط حواجز كثيرة متوهمة للذات والعقل والجماعة والدولة،.. ووو.

فاليوم، ليس بوسع عقل فلسفي كبير في العالم وهو يلحظ التحولات المتسارعة لمفاعيل ثورة المعلوماتية والاتصال على البشر في الغرب والشرق، أن يسلم بأن مستقبل العالم سيكون على ما كان عليه من قبل.

فالمسألة هنا، وربما لأول مرة في تاريخ البشر، تضعنا بحيث لا يكون في وسع البشر التنبؤ بطبيعة حياتهم خلال عقود!

وإذا أمكننا اليوم أن نرصد «الفردانية» كعلامة محتملة في طبيعة مستقبل غامض للبشر في العالم خلال عقود من التطورات والقفزات المتسارعة لثورة المعلوماتية والاتصال، فإن الذي قد تحذرنا منه الحكمة البشرية القديمة هو: ألا يكون ما خلقه البشر بأنفسهم بمثابة وحش إلكتروني عجزوا عن ترويضه.

ولعل فيما نراه اليوم ونشاهده من عجز بعض مصممي مواقع التواصل الاجتماعي كمارك زوكربيرغ «مخترع فيسبوك» عن تحديد هوية الحرية في فيسبوك وتوصيف حد دقيق لمساحتها في تلك المنصة، بل والمفاجآت المتصلة بهوية فيسبوك المختلفة خارج دول الغرب، ما يدق جرس الإنذار!