في قسوة هذا العالم!

25 مايو 2022
25 مايو 2022

عالم اليوم الذي نعيش فيه؛ عالم معقد لكنه مفتوح، غامض لكنه عصي عن الفهم، وعالم ينعكس وعي القيم فيه - خصوصًا القيم الروحية والأخلاقية - انعكاسًا نفعيًا براجماتيًا.

ضَغْطُ عالم اليوم؛ تصنعه قوة الحداثة التي أنتجها عصر التنوير في أوروبا، التي طبعت، بعد ذلك، المفاهيم العامة لحالة أوروبية المنشأ؛ تم تعويمها على أنها حالة عالمية، فيما هي في الواقع حالة إكراه ناعمة تتجلى في أدوات ووسائل وطرائق اشتغال تضعنا باستمرار أمام ناموس عتيد ومحكم بفعل الحالة التواصلية في مختلف عصور الثورات؛ العلمية والصناعية، وصولًا إلى ثورة المعلوماتية والاتصال.

في كل وقت كان هذا العالم الأوروبي يطرح هويته كحالة إنسانية معممة بفضل ما راكمته أوروبا من تجارب التنوير والوعي، والأخذ بالأسباب في كافة ضروب الحياة، الأمر الذي ظهر معه عالمنا عالمًا يضمر الحالة ذاتها التي تجددت مع أطوار تلك الثورات.

لكن هذا العالم الذي يتجلى الجانب المادي فيه كأساس وحيد لعيش الحياة، فيما تعتبر المتعة فيه والسعي إليها - بعيدًا عن الأخلاق - غايته القصوى؛ يضمر، من جانب آخر، قسوةً لا تقمع الخير العادي، وحتى الاستعداد للخير الذي ينمو مع الإنسان - مطلق إنسان - فحسب، بل تصوره كما لو أن ذلك الخير العادي غريزة غريبة عن البشر في الأزمنة الحديثة! يضمر عالمنا قسوةً نشأت معه نشوءًا بنيويًا حين فسَّرت لنا الحداثةُ المصلحةَ المادية بوصفها غايةً لذاتها، ومن ثم اعتبار كل ما يتصل بتلك المصلحة المادية النفعية أمراً يدخل في قانون العقل وقانون الحياة العامة.

لكن قسوة هذا العالم (رغم النعومة الماكرة التي يلبس لبوسها في خطاب الفنون والآداب وحقوق الإنسان) تتجلى لنا، فيما هو يقمع بالكاد قمعًا، ظاهريًا؛ طبيعة الشر في بنيته التي تحتقر الخير لذاته وترى في أي خيرٍ لذاته ضربًا من السباحة ضد تيار الحياة المادية وحياة المتعة ذات الجولة الواحدة للإنسان.

انتظام العالم الحديث؛ الذي جعل من بعض قواعد الظلم الكوني بمثابة حالاتٍ طبيعية لإرادة الشر وإدارته (كحق الفيتو لدول مجلس الأمن الخمس الكبرى التي تخرق انتظام العدالة) ومن قواعد القانون الدولي تعبيرًا عن هشاشة قدرة الدول القادرة - فيما لو شاءت - نصرًا للعدل الإنساني، ها هو اليوم يحصد بدايات ثمار الشر التي أضمرها في وعي الكثيرين بوصفها أمورًا عادية! إن شر العالم (الذي حاول تفكيك بعض أنساقه المضمرة؛ مفكرو ما بعد الحداثة) بإدانة الاشتغال الناعم للشبكات، وإدارة الأنظمة لوسائط الإكراه الخفية بأدوات الدعاية والتعليمات الحكومية الأبوية، وغير ذلك من مظاهر التسلط الناعم على وعي الجموع؛ شرٌ لا زال يراكم عواره يومًا بعد يوم، فكان موعد مرض كورونا محطة عالمية لاهتزاز الإيمان بالعلم، فيما كشف المرض كذلك؛ إلى أي مدى يمكن للحكومات الديمقراطية، أحيانًا، أن تسوق وجهة نظر الشركات العابرة للقارات بقوة ضغوط رأس المال عليها، فيما هي تثرثر عن ضرورة حريات الناس - بوجاهة خبيثة - لإتاحة أكبر قدر من الربح، حتى في ظل وجود تأكيدات مقنعة من جهات اختصاص ومراكز أبحاث كشفت بوضوح لتلك الحكومات عن ضرورات طوارئ يقتضيها الموقف الأخلاقي للطب (تم غض النظر عنها بتلك الحجة الديمقراطية عن الخيارات! وها هي الحرب في أوكرانيا ترسم شبح حرب عالمية ثالثة ومجاعات وشيكة في العالم الفقير من هذا العالم! إن قسوة العالم أصبحت اليوم قادرة على خداع كالخداع الذي يسحر أعين الجميع، في تصوير ازدراء الخير العادي؛ (فطرة البشر التي تولد معهم) ضمن خانة جرباء؛ تجعل الفرد الغافل متورطًا في القبول بتلك القسوة بفعل تأثره بأسلوب خداع القطيع واستحمار الجموع التي ليس بإمكانها التفرد بقدرة مستقلة على تقييم الأمور.

يمضي عالمنا اليوم دون أي تفكير من خارج صندوق الحداثة وإكراهاتها، ليحصد مزيدًا من الخيبات والأزمات التي يعلق فيها الفقراء والضعفاء وحدهم! إن نواميس هذا العالم الذي شيدته الحداثة المادية؛ بلغت قوة التأثير اللامعة فيه بفضل أدوات الدعاية المتجذرة في أنماط حياة، وأساليب عيش وجاذبية صور، مبلغًا من القوة بحيث لا يحتاج فيه أبدًا إلى تنبيه الفرد المأسور بمادياتها، فردٌ هو تمامًا؛ كالذي ليس في قدميه قيدٌ، لكن في الوقت ذاته، لا يستطيع السير من شدة كونه أسيرًا!

محمد جميل أحمد كاتب من السودان