في سردية الوعي القرابي!
الوعي القبائلي إذا ما نظرنا إليه بمنظور العقل سنجده يعكس، عادة، انتماءً لوعي قرابي فأنت ولدت في البداية والنهاية - وحتى قبل أن تحمل اسمًا - كإنسان أي لقد جئت إلى هذه الدنيا من بطن أمك كفرد، وكذلك حباك الله بصفات العقل والسمع والبصر لأنك إنسان تستحق هذه الصفات التي هي علامة تكريم الله لك. وجميع البشر ولدوا بهذه الصفات. لكن المحيط الاجتماعي والقبلي الذي ينشأ فيه الفرد هو الذي يشكل له انطباعاته ومن هنا تكون انطباعات الإنسان في وعيه لقبيلته وعلاقاتها في الأساس نتيجة لما يدركه هذا الإنسان.
وإذا ما كانت قناعاتنا قائمة على هذا الاعتقاد الذي يعلي من شأن الانتماء إلى القبيلة بصورة خارجة عن إطار النظرة العقلانية فإن من أخطر ما سيشكل والوعي القبلي ذاك هو أننا سننظر إلى المواهب (التي هي عطاء الله لكل البشر) على أنها امتياز خاص لابن قبيلة م، مثلًا.
فإذا اشتهر أحد أبناء قبيلة معينة في مجال عام بموهبة إعلامية أو أدبية أو سياسية أو طبية ففي الغالب تطبع الحميمية وعلاقات القرابة تجيير ذلك الامتياز بطابعها الخاص! دون الانتباه غالبا إلى حقيقة أن هذه العبقرية التي تميز بها «ابن قبيلتنا» هي في الأساس موهبة إنسانية جاءت معه منذ ولادته وهي أيضا موهبة قابلة لأن تكون موجودة في أي إنسان آخر من أي قبيلة أخرى.
إن تميز البشر في أي مجال هو فقط يعتبر تميزا لهم من حيث كونهم أفرادا وبشرا مكرمين، في المقام الأول فقط. وأن تلك المواهب منحها الله لهم قبل أن يولدوا، أو أنها ولدت معهم كبشر.
هذا الوعي بإنسانيتنا يحث على إدراك؛ أن التميز الذي نراه في البشر هو تميز إنساني بالأساس وبالتالي هو تميز سيكون موجودا بالضرورة في كل أبناء آدم، ما يمنحنا رؤية سليمة يمكن من خلالها أن نتخفف من نزعاتنا العصبية التي تنظر لمميزات الانتماء القرابي كما لو أنها هي الأصل.
للأسف؛ الوعي القرابي هو وعي قديم وحين نقول (وعي قديم)، نقصد أنه في قديم الزمان لم يكن لأجدادنا علم يتميزون به - قبل ظهور المعارف التي ظهرت في العصر الحديث - ولذلك كانوا يلتفون حول قبائلهم لأن إدراكهم للعالم كان فقط من منظور قبيلتهم وكانوا محقين في ذلك لأنه في الزمن القديم لم تكن هناك دولة ولا مدن مخططات ولا معارف حديثة، ولا وجود لمفاهيم مثل الوطن والمواطنة.
هكذا حين نتأمل في الوعي القرابي القبلي اليوم من خلال نظرتنا لأنفسنا وللآخرين نجده هو الذي يحصرنا في نطاق ضيق من التفكير وإطار محدود من الرؤية يمنعنا من رؤية الأمور على حقيقتها وبالتالي يتسبب ذلك الوعي القبلي في الكثير من المشكلات.
فحين تنظر إلى نفسك كإنسان؛ أولا، وتكون لديك قناعة مطلقة بأنك من حيث كونك إنسانًا - وتلك هويتك الحقيقية - فأنت من حيث المواهب والقدرات الخام مثلك مثل أي إنسان آخر ولد في أوروبا أو أمريكا أو آسيا أو أفريقيا، هذه القناعة القوية بإنسانيتنا هي التي تمنحنا الثقة بأنفسنا وبقدرتنا على أن نكون في مستوى أي تحد نتعرض له. لكن ما يمنع الفرد من ذلك في الحقيقة هو أن وعيه القرابي أحيانًا الذي يؤطره في أفكار ضيقة وتصورات محدودة وتعريفات فئوية خانقة تضغط كل المشاعر السالبة التي تمنعنا من أن نكون فاعلين ومبادرين نتيجة لثقتنا بوعي إنسانيتنا المكرمة كصفة أولى نعيد بها تعريف أنفسنا كأفراد موضوعيين غير قابلين للقسمة على أحد سوى الوطن!
هذا الوعي بإنسانيتنا الخلاقة لا يعني انتقاصاً من الوعي القرابي أو التحسس منه، وإنما يعني تحديدا أن لا ننظر لصفاتنا ومواهبنا وقدراتنا الكبيرة كنتيجة لأننا أبناء قبائل وإنما لكوننا بشرا نستحق تلك الصفات ونؤمن - في الوقت نفسه - بأن تلك الصفات موجودة في كل مجتمعات البشر من حولنا.
ومن خلال تلك النظرة الإنسانية يمكن للإنسان أن يتحرر من الضغوط السالبة للوعي القرابي والتأطير الضيق الذي قد يحس به الأمر الذي سيجعل منه فردا متحررا من كل ضغط يفسر لنا الأمور خارج إطار الحقيقة.
