في النقد وحماية «الذائقة»
غني عن القول أن العملية النقدية فيما هي لاحقة للإبداع ومقومة له، فإنها كذلك اليوم ما عادت تحيط لها المناهج التي كانت تسمى نقدية وتظهر عبر موجات تستمر لسنوات ثم تختفي، فالنظرية النقدية اليوم ربما توفرت على اختبار لمنهجيات مختلفة ضمن منظور يتوخى به الناقد مزاجًا ما في قراءة نص روائي أو شعري أو فني.
وإذ تتعالى اليوم أصوات ضد تعيين فكرة «الذائقة العامة» بوصفها فكرة قد تمنح النقاد سلطة يتسترون من ورائها في ممارسات إقصاء لنصوص وهدم لنصوص أخرى بحجة «حماية الذائقة العامة» لا سيما في ظل انفجار سلطة السوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تعج بنقاد هواة ملأوا الفضاء الافتراضي، فإن ما لا يهمنا اليوم لا يتصل بتحديد هذه الذائقة ضمن تعريف جامع مانع -كما يقول المناطقة- بل يتصل بكيفية إيكال قواعد ما في مهام درس الشعر مثلا في المناهج، بعيدا عن أساس اعتماد على مجموعة من القصائد العربية ككتاب «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي، الذي يعتبره كثيرون أساسًا لتذوق طائفة من النصوص الشعرية يجمع كثيرون على جمالها متى ما قرئت وشرحت لهم على نحوٍ جميل وصحيح، بل كيف يمكن تفسير الرواية التي تدل على ذائقة العرب في الجاهلية حين قاموا بتعليق «المعلقات السبع» بالكعبة -كما تقول الرواية- ونحن هنا حيال هذا الاختيار الجاهلي لقريش لا مناص لنا من التسليم بمعيار أصيل ورفيع من إجادة لفن القول ذكرها القرآن الكريم.
إن إعادة تعريف مفهوم «الذائقة العامة» لفن ما من الفنون قد يكون موضوعًا قابلًا للجدل من حيث إن فنون القول مثلًا، كالشعر، هي أيضًا عرضة للتغيير في الأساليب مع جوهرها الخالد، لكننا حتى في الشعر نجد من النقاد من لا يعتبر العروض أساسًا لتذوق الشعر في العصر الحديث وسنجد هنا موقفًا لا يخلو من تحامل.
إن حجة «حماية الذائقة» تجد لدى بعض النقاد طريقًا مزدوجًا في دلالة المعنى، حيث يمكن لهذه المقولة أن تكون سببًا في إحجام ناقد على انتقاد روائي تميز لفترة من الفترات في بعض رواياته بأسلوب قوي ونال جوائز أدبية مثلًا على عمل أو عملين من أعماله الروائية، لكن بعد فترة من الزمن تبين مثلًا لهذا الناقد أن الروائي بعد أن بلغ شهرةً كبيرة أفلت منه خيط السرد، لكنه جريًا وراء اللحاق بالسوق أصبحت أعماله أكثر ترهلًا وأقل متعة، ومع ذلك لا يقدم هذا الناقد على نقد الروائي.
نحن أمام هذه الحالة بإزاء موقف مشكك ربما تعين على الناقد الخوض فيه إذا ما تبين له تدهور مستوى الكتابة الروائية لروائي ما كالروائي صاحب الحالة التي ذكرنها من قبل، فهل إذا كتب ذلك الناقد نقدًا تحت عنوان «حماية الذائقة العامة» عبر قراءات نقدية مقارنة في عملين أو أكثر لروائي هل يمكن تصنيف عمله هذه ضمن أعمال حماية الذائقة؟
يبدو أن في الأمر سعة إذا ما استصحبنا اختلافات الذائقة والعمر والزمن والحال والأسباب كثيرة، لكن في الوقت ذاته إن هذه السعة لا بد أن تنطوي على ما يمكن أن نطلق عليه هوية العمل وعناصره التي تمسك حدوده وتعيد تعريفه كفن له قواعد لعبته، وسنجد هنا أن مثال قصيدة النثر في هذا المجال هو المثال الأبرز لمهاجمة البعض مبدأ حماية الذائقة تحت عنوان عريض من شروط قصيدة النثر التي وضعتها الناقدة الفرنسية لقصيدة النثر سوزان برنار في كتابها الشهير «قصيدة النثر» وذكرت ضمن شروط هذه القصيدة «اللاغرضية» التي فسرها البعض بالمجانية، لكن في تقديرنا المجانية هي حرية كتابة قصيدة النثر ذاتها التي لاتحتاج من الناحية الشكلية إلى قيود ظاهرة.
إن جدل «حماية الذائقة» قد يتحول سلطة قاهرة للنقاد، لكن في الوقت ذاته لا يخلو مبدأ حماية الذائقة من وجاهة متى ما عرف الناقد كيف يدرك التعامل مع ذلك الأمر.
والسؤال الذي يفرض نفسه: إذا كان الناقد يسبر أحيانًا من أغوار العمل الفني أكثر من مبدع العمل ذاته كما قال المتنبي ذات مرة عن الناقد ابن جني: «ابنُ جُنَّي أعْلَمُ بِشِعْرِي مِنِّي» أليس في ذلك ما يؤهل الناقد لحراسة الذائقة الأدبية العامة؟
