في السرديـات واستمرارها

19 أكتوبر 2022
19 أكتوبر 2022

السرديـات من ظواهر الاجتماع الإنساني الملازمة للفرد والجماعة، ينتحلها هذان للتعبير عن أنماط تكيفهما مع الواقع الموضوعي، وأنماط تفاعلهما مع المحيط الإنساني، وللتعبير عن جملة التمثلات الذهنية التي يكوناها عن العالم. لا مجال لافتراض وجود ممكن للاجتماع الإنساني من دون سرديات تساوقه. وهذه حقيقة لا يغير منها في شيء أن السرديات تنتمي إلى الفاعليات الثقافية والرمزية، لا المادية، وهي متأخـرة - بالتالي- في تكونها ووظائفها عن سائر الفاعليات الاجتماعية التي هي من طبيعة مادية؛ الأمر الذي يوحي بأن في الإمكان استواء اجتماع من غير سرديات مساوقة؛ ذلك أن الثقافة - في معناها الأنثروپـولوجي الشامل - ليست، فقط، جملة الفعاليات المرتبطة بالمكتوب والمفـكر فيه، بل يدخل تحت معناها ما ينتمي إلى أنماط العيش، والعوائد، والقـيم، والتقاليد من أفعال؛ ففي هذه جميعها ما يفصح - أشكالا ما من الإفصاح - عن شخصية مجتمع أو جماعة اجتماعية فيه.

ما من شك في أن السرديات بنيات قولية في المقام الأول، ومن هنا طابعها الحكائي؛ فهي لا بد من أن تتخذ شكل قول أو كلام؛ أكان مكتوبا أو منطوقا، فيقع تناقله وتداولـه على نحو يصير معه كلاما جماعيـا، ينتمي إلى الجماعة بحيث يقع محو «مؤلفه» المفـرد. ولكن هذا النظام القولي لا يبدأ هكذا ناجزا مكتملا منذ لحظة النشأة، بل يتكون من موارد محدودة لا يتبين الثقافي فيها إلا بما هو جزء من العملي والسلوكي، قبل أن يـشرع ذلك النظام (القولي) في النمو الداخلي: في الانتقال من البسيط إلى المركب وفي التبنين الذي يصير معه نظاما، أي خطابا مصممـا على النحو الذي يقنع المخاطب (المتلقي) بفحواه، ويستميله إلى جانب من يوجـه إليه الخطاب؛ وقد تكون الجماعة الاجتماعية عينها، أو من ينتدبون أنفسهم ليتنـزلوا منها بمنزلة ألسنتها الناطقة باسمها.

السرديات، إذن، حكايات تـنـشئها جماعات عن نفسها (مجتمعات، جماعات دينية، طبقات أو فئات اجتماعية، تيـارات فكريـة...) تتغـيـا بها، ابتداء، تنظيم العالم والأشياء والعلاقات تنظيما في الذهن يضفي عليها المعقولية؛ وتـتغيـا تقديم تفسيـر لها تسهـل معه السيطرة عليها، أو التماس تبرير لها تـتـشرعـن به، أو الإعلان عن رفضها جملة والدعوة إلى إقامة نظام الأشياء والعلاقات على نحو آخر أصـوب... إلخ. والغالب على السرديات، في الأحوال هذه جميعها، اقترانها بالطـوبى (= اليوتوپـيا)، وهندستها عوالم بديلة يـتطـلع إليها بوصفها الغايات البعيدة المبتغاة، التي تتحقق فيها السعادة أو غيرها من القـيم المشعور بالافـتـقار الحاد إليها في العالم القائم. ولعل هذا البعد الطوبـوي في السرديات هـو ما يمنحها تلك الطاقـة الهائلة التي تجعلها قادرة على تجهيز العقول والنفوس والمخاييـل، وتحشيدها والـزج بها في معترك تحقيق فكرة مثالية ما: دينية أو مدنية، سياسية أو اجتماعية...إلخ. ومن النافـل القول إنه لولا تلك الطاقة الروحية الهائلة في السرديات، لما كان في الممكـن أن نشهـد في التاريخ على ظواهر من السخاء الإنساني الرفيع؛ من قبيل ظواهر الجهاد، والتضحية من أجل الوطن، أو من أجل الحريـة والكرامة الإنسانية، أو من أجل العدالة الاجتماعية وسواها من القيم التي ترتفع بالإنسان عن معـدلـه الطبيعي.

خضع تكـون السرديـات لتطـور تمايـز فيه قديمها عن جديدها، ولكن من غير أن يعني ذلك أن قطيعة تامـة حصلت بينهما. والتطور هذا طبيعي بالنظر إلى تراكم المعارف، وتحول منظومات القيم، وتغير الأفق الذهني للمجتمعات والأجيال المتعاقبة فيها. أكثر السرديات القديمة، التي نشأت قبل العصر الحديث، يتكون من مواد متنوعة منتـزعة من معتقدات عديدة ومن أزمنة مختلفة، يعـاد رتقها في بنية جديدة تتكون منها السردية. إن أي سرديـة تنتمي إلى العصر الوسيط المسيحي- اليهودي، مثلا، أو إلى العصر الكلاسيكي الإسلامي، وإن كانت - في جوهرها - سردية دينية، تجمع إليها، في الوقت عيـنه، مواد هي عبارة عن مزيج من الأسطوري والتاريخي والديني والأنـثروپو- ثقافي، بحيث تحتاج - عند تحليلها - إلى جهد جـهيد لفك اشتباك عناصرها ورد كل منها إلى مصدره الذي ينتمي إليه. لذلك تبدو السرديـات القديمة في شكل بناء مؤلـف من طبقات، كل طبقة منه وليدة حقبة ومعتقداتها ومحصلة اجتماع مواد من مصادر متباينة. غير أنه وراء هذا الذي يبدو فيها وكأنه تنافر وهجانة، ثمة تناغم وانسجام داخليان هما ما يبعثان الحياة والمعنى في السردية، ويوفران لها شروط التأثيـر في الجمهور الاجتماعي الذي تخاطبه.

يفرض مبدأ التماسـك في السرديـات الحديثة نفـسه على نحـو من الجلاء أعلى؛ إذ يتضاءل حضور الأسطوري والديني فيها إلى حدود العدم أحيانا، بينما يتسع نطاق التاريخي والاجتماعي والأيديولوجي فيها، من غير أن يطرأ أفول على وقودها الطـوبوي. لو أخذنا، مثالا، أكبر سرديتين حديثتين، وأوسعها انتشارا وأثـرا، هما السرديـتان الليبرالية والاشتراكية، سنلفي أنفسنا أمام سرديتين مدنيتين - لا دينيـتين - تخاطبان حال الحرمان والحاجة في الإنسان، وتصطنعان له مشهد وجود بديل أشد ملاءمة لإنسانيته. إنهما لا تعدانه بجنة في السماء، أو بعد نهاية العالم، بل تعدانه بجنة أرضية تتحقق فيها الحرية (= السردية الليبرالية)، والعدالة الاجتماعية (= السردية الاشتراكية)، ومع ذلك فهما تملكان أن تجندا طاقة الجمهور في المعركة من أجل قضيتيهما كما تملك أي سردية دينية أخرى، تماما، أن تفعل ذلك؛ حتى أنه وجد من اعتبر هذه الإيديولوجيات/ السرديات أديانا أرضية أو مدنية من فرط ما أبدته من قدرة مذهلة على شد الجمهور إلى طوباها، وعلى تعبئته وتجييشه!

هناك من يتحدث اليوم عن «نهاية عهد السرديات الكبرى» (الليبرالية، الاشتراكية، الوطنية والقومية...)، بعد «زوال» الاستقطاب الأيديولوجي قبل ثلث قرن! هذه، أيضا، سردية جديدة ولكنها سخيفة تنتمي إلى خطاب سخيف: خطاب النهايات. هكذا قيل عن سرديات الأديان بعد أن نشأت ثورة العلوم والمعارف في العصر الحديث حين وقع «تشييعها» أيديولوجيا؛ ولكنها لم تنته، حتى لا نقول إنها زادت أوارا، وكذلك لن تنتهي أي سردية من الوجود طالما بقي الإنسان إنسانا، وطالما استمر تطلعه إلى سد حاجاته الاجتماعية والروحيـة.