في التعاطف الإنساني «الحديث»

04 أغسطس 2021
04 أغسطس 2021

محمد جميل أحمد

التعاطف قيمة إنسانية أساسها الشعور بأحوال بشر آخرين من خلال مواقف وحالات تعكس المشاركة الوجدانية، مع فرد أو أفراد، مهما كان لونه أو جنسه أو عرقه.

والتعاطف بهذا المعنى، رغم قدرة الفطرة البشرية على اجتراحه بوصفه شعورًا شخصيًا كامنًا في الذات، إلا أن الحياة المعاصرة منذ بزوغ فجر الحداثة قبل 4 قرون جففت الكثير من حقيقته، أو فلنقل؛ إنها إذ جعلت من ذلك التعاطف، في حالات كثيرة، ضمن ما يسمى بالمسؤولية المجتمعية للشركات؛ فإن كثيرًا من غنى التجربة البشرية في تطوير علاقات التعاطف الإنساني بصورة حرة، أصبحت غير محفزة لاختبارها كتجارب قد تلعب دورًا كبيرًا في نزع تلك الميكانيكية حيال خدمات المجتمع التي تقدمها الشركات الكبرى مستغلةً ذلك المعنى الإنساني النبيل، ومحولةً إياه إلى فائض شعور!.

إن العاطفة بحد ذاتها تجربة تعكس ميلًا شخصيًا لموقف من شخص ما، قد تتعدد دوافع التعاطف معه، فمنها ما قد يكون سببه: الكاريزما، ومنها ما قد يكون الهيئة، ومنها ما قد يكون متصلاً بالنوع، وإلى غير ذلك من أسرار وأصول التعاطف.

وإذ بدا لكثيرين أن الفردية باعتبارها هوية الحياة المعاصرة ورمز مدنية الإنسان الحديث؛ فإن دولة الرفاه الاجتماعي، خصوصًا في أوروبا الغربية، عبر تيسيراتها المادية لمواطنيها، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، كان قد تقلص باستمرار حرية التعاطف الإنساني وحميميته.

ومع استصحاب وسائل دعاية وأدوات تأثير جسدت قوتها الناعمة عبر سطوتها غير المباشرة على الجماهير؛ بدا التعاطف الشخصي ميلاً فرديًا نادرًا، لا سيما وأن أدوات دولة الرفاه المعاصرة كانت تمس حيوات الأفراد من خلال تمثيلاتها المتعددة في إعادة تعريف الكثير من العلاقات الشخصية، كعلاقات التعاطف الإنساني كما لو أنها جزء من حياة في الزمن القديم. لقد كان لإحساس الإنسان الأوروبي المعاصر بسطوة الدولة وعالمها المحيط (الذي وصفه الفيلسوف السياسي الإنجليزي «توماس هوبز بــ«اللفياثان - حيوان أسطوري ذو قوة محيطة - في كتابه عن الأصول الطبيعية والقانونية لسلطة الدولة الحديثة) ما ضيع من ذاكرته اليوم بعضًا من صور التعاطف الإنساني ذي الحميمية العالية. ربما سيبدو طبيعيًا في العالم العربي؛ إذا ما رأيت الناس يجتمعون على شخص إثر حادث مروري أصابه، برغبة تقديم العون والدعم، ومن باب التعاطف الإنساني الفطري الطبيعي، لكن ربما لن يبدو ذلك طبيعيًا في بعض دول أوروبا الغربية نتيجة للحياة التي تضررت فردانيتها، بحيث لن يبدو غريبًا أبدًا؛ لو رأيت الناس في الغرب لا يستثيرهم مشهد إنساني درامي عالي التوتر والحساسية؛ مثل مشهد شخص وقع له حادث سير، وإيكال أمره لسلطة الدولة؟ بل يمكن القول: إن هوية المدينة الأوروبية الحديثة القائمة على الفردانية لا تأخذ دلالاتها في العمران البشري إلا بوصف المواطنين فيها مجموعة من الغرباء يعاد تعريفهم، فقط، بهوية المواطنة العامة، أي عبر العلاقة التي تخول للدولة ممارسة سلطة إكراهها في المجال العام! إن «تقنين» العواطف الذي استخدمته الحداثة، عبر سلطة الدولة، في ضبط تعبيرات المواطنين والأفراد إلى حدود بدت باهتة؛ تمثل، بعد ذلك، في إدراك عام موضوعي حتى داخل ردود فعل عواطف الأفراد، فأصبحت العواطف بعضها ضمن الإجراء القانوني الذي قد يتمثل في ضرورة: إن يبلغ المواطن الشرطة إذا وجد نفسه أمام جريمة يمكنه المساعدة فيها بتبليغ الشرطة. وبالرغم من أن قدرة الفرد على الاستجابة لدوافعه الفطرية بالتعاطف الحر؛ قدرة قوية وقابلة لأن يتم توظيفها في علاقات تعاطف، لكن المأزق يكمن في ضرورات الفرق بين الذاتي والموضوعي، والخاص والعام، وغير ذلك من حيثيات التفريق الصارمة في علاقات المواطنين.

وهكذا، من خلال صورة الحداثة والعولمة التي أصبحت هوية العالم جميعًا تسلل برود التعاطف إلى حياة الناس في الشرق والغرب. لكن هنا، أي في العالم العربي، سنجد أن الخوف غير المبرر هو بذاته ذريعة للتنصل من التعاطف حتى في حال وفرة القدرة التي تمكن من المتعاطف تأكيد تعاطفه دون سبب موضوعي! وهكذا، فيما تكشف الدولة في الغرب عن سلطتها على مواطنيها إلى درجة تتولى فيها مسؤوليتها الأخلاقية، حتى فيما هو مجلبةٌ للتعاطف الفردي والشخصي، يكشف الأفراد عندنا عن خواف من تحمل أي مسؤولية مهما كانت!