في الاستقرار والفوضى

09 نوفمبر 2022
09 نوفمبر 2022

كثيرا ما يقع الخلط، في بعض الوعي، بين التغيير والفوضى في امتداد مسلك إجمالي من الخلط بين المفاهيم مدروج عليه على نطاق واسع. هكذا ينظر إلى الفوضى بما هي حالة من حالات التغيير لمجرد أنها تخرج عن نطاق النظام، أي كما لو أن التغيير ليس أكثر من خروج عن النظام، شأنه في ذلك شأن الفوضى! وعلى النحو نفسه يقع الخلط بين معنى الاستقرار ومعنى الجمود والمحافظة لمجرد أنه الحالة التي يحافظ فيها على النظام وعلى انتظام سير العلاقات والمؤسسات، والحال إنه ما من تماه في المعنى أو تناظر بينهما، حتى لا نقول إنهما قد يكونان على طرفي نقيض في ما إليه يرمزان.

التغيير غير الفوضى لأنه -وإن كان يستتبعه تغيير نظام سابق (اقتصادي، سياسي، اجتماعي، فكري...)- ينتهي إلى إقامة نظام جديد قد يكون منه شيء، كثير أو قليل، من النظام السابق، وقد لا يكون فيه منه شيء. أما الفوضى فانقضاض على نظام سابق وعلى ما يمكنه أن يفتح طريقا نحو اجتراح نظام جديد؛ إذ مبناها على اللانظام، وهي ما كانت فوضى إلا لأنها مجردة من أي نظام يعقلها عن العبث والشطط. والاستقرار، أيضا، غير الجمود والمحافظة، فقد يتمتع مجتمع أو تتمتع دولة بالاستقرار فيما حركة التحول والصيرورة فيهما مزدهرة في ميادين الاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلوم والثقافة؛ وقد يصاب مجتمع ودولة بالجمود، فيقع ركود في الإنتاج المادي والرمزي، وفي عمل الأجهزة والمؤسسات، وفي برامج التنمية الاجتماعية...، فيكون ذلك كله سببا في زعزعة الاستقرار أو في تعريضه لخطر التصدع الذي يفضي إلى التـأزم السياسي والاجتماعي.

ليس بين هذه العبارات، إذن، من تلازم في المعنى أو تـرادف، كما ليس من نتيجة تترتب عن الجمع بينها سوى تغليط الوعي واستزلاله. وما أغنانا عن القول إن العديد من مظاهر السوء في السياسات، أو في الخيارات السياسية، إنما مأتاه من سوء التقدير هذا الناجـم، بدوره، عن الخلط بين المفاهيم. ألم نعش في الوطن العربي -على مدى نيـف وعقـد من الزمن- مثـل هذه الحال من الخلط الحاد بين فكرتي التغيير والفوضى، بمناسبة ما دعي في الإعلام الغربي بـ«الربيع العربي»؟ لقد سيطرت على أذهان الملايين، في تلك السنوات العجاف، فكرة التغيير فأخذت على الجميع ميزان التمييز وبات في حكم المعتقد الجمعي أن المجتمعات العربية تعيش، فعليـا، عملية تغيير غير مسبوقة في «جذريتها» وحدتها. ولكن ما لبث الجميع أن وجد نفسه، فجأة، أمام حال من الفوضى المعممة: شوارع وميادين وساحات من حشود سائبة لا رأس ولا مركز ينظمها ويديرها!؛ شعارات وأفكار هائمة لا ينتظمها برنامج واضح؛ خيارات متضاربة لا تجمع بينها استراتيجية عمل؛ عنف أهوج ثم مسلح استجر حروبا أهلية وقـتلا وتشريدا وتهجيرا لملايين المواطنين وخرابا ودمارا في البنى والمقدرات...! وفي النهاية، لا نظام جديد قام ولا يحزنون، وإنما فوضى ضاربة الأطناب! هل نحتاج، إذن، إلى مثال أبلغ من هذا لنقف على فداحة ما يقود إليه مثل ذلك النوع من الخلط القاتل؟

وكما أن الفوضى غير التغيير لاختلاف علاقة كل منهما بالنظام: إنشاء أو إلغاء، فهي نقيض الاستقرار ونقضه. الاستقرار حالة من حالات النظام، بل هو الأعلى مرتبة في أي نظام، حتى أن عبارة النظام نفسها تكاد أن تنتهي إلى إفادة معنى واحد هو الاستقرار. في الاستقرار انتظام لعمل كل نظام وهو -في الوقت عينه- شرط لذلك الانتظام وبيئة مناسبة لاستتباب أمره. لذلك لا تجد الفوضى موطئ قدم لها كلما مكن الاستقرار لنفسه وتـرسخ. وما من إمكان لديها إلى التأثير سلبا في النظام، وإحداث حال من التأزم في سيرورة عمله، أو إلحاق عطب بمجرى انتظام سيره إلا بزعزعة بيئته: الاستقرار. هكذا، إذن، نحن واجدون أن الاستقرار الاجتماعي والسياسي هدف مرغوب من قبل كل من يعنيهم إما الحفاظ على نظام ما أو الإتيان عليه بمعاول الهدم؛ إذ هو (= الاستقرار)، في الحالين، المعبر الاضطراري إلى حيث يتحقق أحد ذينك الهدفين. وفي الحالين أيضا، لا نُدْحةَ لطلاب هذا الهدف أو ذاك عن التعامل مع احتمالات الفوضى؛ إما بحسبانها خطرا ينبغي كفه وقطع دابره، صونا للاستقرار الاجتماعي والسياسي وحماية للنظام، أو بحسبانها أداة قابلة للتوسـل والتسخير لضرب ذلك الاستقرار وذاك النظام.

من النافل القول إن الاستقرار، في عالم اليوم، هو أهم مادة استراتيجية في السياسات؛ المادة التي من دونها لا وقود لآلة السياسة في نطاقاتها كلها: الوطنية، والإقليمية، والدولية. لا غرابة في أن يرتفع الطلب السياسي عليه في العالم كله، وأن يصبح طلبة الجميع: الدول، الأمم، الشركات العابرة للقوميات، الشركات الوطنية...إلخ؛ فالاستقرار بغية كل دولة وطنية كي تنهض بالتزاماتها في حماية السيادة الوطنية من مخاطر الاستباحة الخارجية؛ وإنجاز برامجها التنموية في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي لإجابة مطالب الأمة والشعب وترسيخ المشروعية السياسية للسلطة القائمة؛ وبسط سلطان الدولة على أراضيها ومواطنيها وحماية الأمن الاجتماعي والسلم المدنية...إلخ.

والاستقرار بغية الدول جميعها قصد بناء أفضل علاقات الجوار والتعايش والتعاون بين بعضها في محيطها الإقليمي، وقصد الحفاظ على السلم العالمية وتطوير العلاقات الدولية نحو برامج التعاون والشراكة، وتنمية مؤسسات النظام الدولي وعلاقاته على أسس من الحوار والتفاهم.

والاستقرار شرط لازم لتحقيق التنمية، سواء التنمية الوطنية أو التنمية الإقليمية والدولية، لأنه ما من إمكان لتنمية واستثمارات وتدفـق لرؤوس الأموال في امتداد الفوضى وانعدام الاستقرار... على ما أظهرتنا عليه تجربة سنوات «الربيع العربي» العجاف وما تلاها.

ثم إن الاستقرار شرط لصون الأمن في كل دولة (الأمن الوطني أو القومي والأمن الاجتماعي)، وفي الإقليم والعالم (الأمنان الإقليمي والعالمي)، بمقدار ما إن فرض ذلك الأمن شرط لتحقيق ذلك الاستقرار. ولسنا في حاجة إلى إفاضة في القول وتنفيل -في هذا المعرض- لبيان أن الأمن، في عالم اليوم، هو العملة الذهبية الأساس التي يقع بها تبادل المصالح والمنافع في العالم كله: حيث لا اقتصاد ولا تنمية ولا استثمار ولا تجارة ولا تبادل ولا تعاون من دون أمن.