في أخلاقيات الوعي الحديث

24 نوفمبر 2021
24 نوفمبر 2021

حين تنفك أخلاقيات الوعي عن طبيعة دلالته كوعي حديث سنجد أنفسنا أمام تناقضات كثيرة نقع فيها دون أي شعور بها كتناقضات تمثل في حقيقتها انفصالاً عن ذلك الوعي الحديث الذي هو في حقيقته كل متكامل.

بطبيعة الحال نقصد بالوعي الحديث؛ التعليم غير النسقي الذي يفتح آفاق الانسان المتعلم على رؤية متلازمة بين المعرفة والأخلاق أو المعرفة والذمم التي تتصل بوعيها كمسؤوليات كما قال المتنبي: " إن المعارف في أهل النهى ذمم ".

صحيح لقد ارتبط منشأ الوعي الحديث بالظاهرة الاستعمارية في البلاد المستعمرة، وكان المظنون من قبل الاستعمار في إدارة وتلقين تلك المعارف الحديثة لشعوب العالم الثالث التي استعمرها هو تكريس ذلك الفصل بطرائق ذكية يتوخى من خلالها التركيز على المعارف التطبيقية التي تدفع بسوق العمل المحدودة جداً، آنذاك، بطبقة تكنوقراط مهمتها التدوير النسقي لتلك المعارف التطبيقية في الحياة العملية دون أي قدرة على تطوير أو اختراق باتجاه آخر في تلك المعارف التطبيقية، وهذا ما فعله الاستعمار الانجليزي في السودان حين أنشأ " كلية غردون التذكارية " (جامعة الخرطوم فيما بعد) في العام 1902 التي أخرجت طبقة من المتعلمين التكنوقراط كانوا هم طليعة النخبة السودانية المتعلمة.

لكن يمكن القول؛ إن الأساس الذي وفَّره الوعي الحديث، بعد أن استقلت شعوب المنطقة العربية وانفتحت على معارف العالم مع التطورات الكبرى التي فتحت للناس إمكانات إدراك مختلف لمعارف الحداثة، ظل قاصراً، كما ظل بصورة ما، امتداداً لطبيعة ذلك التصور النسقي للمعارف التطبيقية، وبطريقة ظهر معها غياب واضح لأخلاقيات الوعي الحديث التي ينبغي أن لا تنفك عن ذلك الوعي! فحين نجد مجتمعاً فيه وفرة وافرة من المتعلمين بنسبة مئوية عالية، كالمجتمع اللبناني مثلاً، ونجد ذلك المجتمع، في الوقت نفسه، ينطوي على عجز يشل قدرته على الانفكاك من تأثير قوة وعي قديم، كالوعي الطائفي، الذي يشل علاقات المواطنة البينية بين أفراده بصورة تكشف لنا انسدادات خطيرة كالتي يعيشها المجتمع اللبناني مثلاً؛ فسنجد أنفسنا أمام مأزق حقيقي لأخلاقيات الوعي الحديث.

والأمر نفسه تقريباً؛ حين نرى مجتمعاً كالمجتمع السوداني، أو بقية المجتمعات في المنطقة العربية، تنفصل فيها أخلاقيات الوعي الحديث حال ممارسة كثير من المتعلمين في تلك المجتمعات لعمليات خضوع قوي لتأثير القبيلة تأثيراً سلبياً ومضراً بعلاقة المواطنة مثلاً! والحال أن ذلك التناقض الذي يعكس انفصالاً في ذهنية المتعلم حيال تَمثُّل الوعي الحديث ككل متماسك لا ينفصل عن بعضه في وعي مقتضياته، هو الذي يمثّل اليوم الحال الأبرز لذهنية التخلف التي تستقطب تلك التناقضات دون أي احساس بأنها تناقضات بالفعل! هذا الفصام الذي يفعل فعله في جيوش من المتعلمين في المنطقة العربية سيردنا إلى حقيقة أخرى إلى جانب ذلك الأسلوب الذي انتهجته المستعمر في بدايات تأسيسه لصورة الوعي الحديث، تلك هي حقيقة: التخلف.

ذلك أن الامتناع المعيق لذلك الوعي بفصل أخلاقياته عن مقتضياته المعرفية، سيظل علامةً مثيرة للتعجب ولا يمكن أن يفهمها أي تأمل عقلي في تلك الأفعال الغريبة التي تصدر عنها تلك التناقضات! إن فك الارتباط الظاهر بين الوعي الحديث وبين مقتضياته الأخلاقية في أفعال وردود أفعال الكثيرين في هذا الجزء من العالم المسمى عربياً هو رهان يقتضي الخروج منه كل تلك الانسدادات التي تعيشها المنطقة العربية بسبب التخلف وهي انسدادات إذا تركت في تصاعد إلى ذروتها بتلك الوتائر المتسارعة فستكون نتيجتها الحتمية هي الفوضى الشاملة التي تحدق بمصائر الكثير من بلدان المنطقة.

ليس معيباً أن يكون المرء جاهلاً جهلاً ابتدائيا، فالجهل الابتدائي بالرغم من خطورته يظل قابلاً لأن يرتفع ويزول، أما ذلك الانفصام بين الوعي الحديث ومقتضياته الأخلاقية سيظل مأزقاً مقيماً ومفضياً إلى الفوضى.

فإذا كان جميع المتعلمين في مجتمع ما يدركون أن الممارسات الطائفية كمنظور حصري للمواقف والعلاقات في مجتمع متعدد الطوائف؛ سبب رئيس من أسباب دمار المجتمعات، ثم يستمرؤون ممارساتها في ذلك المجتمع؛ فإن ذلك الشكل من انفصال الوعي عن أخلاقياته لا يمكن أن يجد له العاقل تفسيراً إلا بكونه دلالة على التخلف بالرغم من الوعي النسقي للتعليم في ذلك المجتمع؛ فالوعي النسقي هو آفة المعرفة!