فلسفة العلم في العصر الرقمي

03 يونيو 2023
03 يونيو 2023

يفرض العصر الرقمي واقعًا لم تعهده المجتمعات الإنسانية، وهذا الواقع ذو التحولات السريعة كان بمثابة صدمة بالنسبة للتيارات العلمية والثقافية؛ إذ إن تكيفها مع المتغيرات يمر بوتيرة متسارعة تكاد تقضي على أي فلسفة معرفية وعلمية مستحدثة، والانتقال إلى تحديث مفاهيم فلسفة العلم ومستجداتها بات تحديًا مع كل موجة علمية قادمة. يدندن الحديث هنا على أوتار أزمة المعرفة وفلسفتها في العصر الرقمي الذي باتت تحولاته ملحوظةً لدى التيار العلمي وخصوصًا عند المهتمين بفلسفة العلم وتاريخه.

لم تعدْ مآلات العلم وتوجهاته مبهمةً في أنها تسير في اتجاه يحاول العلماء عبره الصعود بالإنسان وحضارته، إلا أن ذلك لا يمكن أخذه بشكل مطلق؛ إذ إن ملامح أخرى -حتى وإنْ ضاقتْ- للعلم مبنية على زعزعة الوجود الإنساني واستقراره؛ وهنا يمكن أنْ نلمح للمساهمات العلمية -مثلًا- اتجاهًا لسباق التسلح العسكري الذي تتوجه نتائجه النهائية إلى سحق الوجود الإنساني مهما اختلفنا في الأسباب والنتائج الفرعية -الضروري منها وغير الضروري-، وكذلك السباق الرقمي الحالي المتمثل -في وقتنا- في الذكاء الاصطناعي الساعي في جوانب كثيرة إلى منح الحياة المتقدمة للإنسان، ولكنه في جوانب أخرى يتوجه إلى فاجعة لا يقل خطرها عن خطر سباق الصناعات العسكرية إنْ لم يحسنْ ضبط هذه التقنيات وتحديد أخلاقياتها.

أحاول في هذا المقال أنْ أرى ماهية فلسفة العلم ومآلاتها في العصر الرقمي الحديث، وأنْ أفهم حركة الفلسفة وأدواتها العقلية في تحديد ماهية العلم وتوجهاته مع ذروة التقدم التقني، وهنا سأحاول -قدر المستطاع- التجرد من التأثير التأويلي الفلسفي الذي يخرجه الفلاسفة والمختصون في فلسفة العلم حتى لا أقع في إشكالية التقليد الضيق الذي لا يخرج بجديد. نأتي إلى مراحل الظاهرة العلمية الأولى عند الإنسان «العاقل» التي لا أريد تقييدها بالثورة الزراعية وما صاحبها من ضرورات علمية «بدائية» بل بالظاهرة التأويلية الأولى «البدائية» للظواهر الكونية وعموم الحياة، وهو السحر الذي يعتبر شكلًا أوليًا للعلم «Proto-Science» كما يذكر (برتراند رسل) في كتابه «حكمة الغرب». نجد هنا أن مظاهر التفكير الإنساني - وبغياب العلم- الساعية للبحث عن جوابات للإسئلة الوجودية بدأت بأدوات عقلية «معرفية» بدائية قادت إلى تأسيس الخرافة والأساطير، وهنا كان انتفاع البشرية ضئيلًا، ويكاد يكون معدومًا؛ مما ساهم في التأخر الحضاري. تأتي بعدها العقلانية القديمة التي بدأت عند الإغريق وانتقلت إلى الرومان وبعدها إلى المسلمين وصولًا إلى الغربيين.

ساهمت هذه العقلانية المتدرجة في مستوياتها وأدواتها في تأسيس مدارس فلسفية كثيرة قادت في بعض حقبها إلى ظهور الفلسفة العقلانية والتجريبية التي نهضت بالعلم في كثير من منطلقاته. هذه التدافعات الفلسفية ومدارسها دفعت إلى تحرر العلم من سطوة الخرافة والأسطورة المدعومتين بأدوات العلم البدائية مثل «السحر» والتفسيرات الميتافيزيقية الخالية من اليقين المعرفي «المعقول والمحسوس»، وأجد أن فلسفات مثل فلسفة (سبينوزا وديكارت) لها دورٌ في انتقال العلم وأدواته التأويلية من المرحلة العقلانية القديمة (السقراطية والإفلاطونية والأرسطية) دون أنْ نغفل المساهمة الإسلامية التي أحدثها فلاسفة مثل الكندي وابن رشد والفارابي وابن سينا، حيث ساعد هؤلاء الفلاسفة المسلمون في قيام الفلسفة العقلانية الحديثة عند أمثال (سبينوزا وديكارت) عن طريق حفظ الإرث اليوناني وإحياء وجوده -بعد سباته الطويل-، وهو الإرث الذي كاد أن يفقد مع هيمنة الكنيسة التي أرادت أنْ ترجع العقل والعلم إلى المستويات البدائية.

لا يمكن أيضًا أنْ نغفل أهمية المدرسة الفلسفية الكانطية التي حاولت أنْ توازن بين الفلسفات العقلانية والتجريبية لتؤسس ثوابت منهجية حديثة للعلم -رغم النزعة الأخلاقية لهذه المنهجية-، وبمساندة المنطق الرياضي الذي قاد نيوتن لبناء التصور الحديث للكون وحركته الميكانيكية الذي أسس لمبدأ الحتمية العلمية حتى ظهور الكوانتمية والنسبية التي نقلت العلم إلى الزاوية الفلسفية الأكثر تعقيدًا وهي «النسبية العلمية واللاحتمية»؛ لتبدأ حينها تساؤلات فلسفية أكثر عمقًا تحاول أنْ تبحث في قضايا كونية ووجودية كبرى تبعثرت إجاباتها بين المنطلقات العشوائية والصدفية والغائية. ألغاز علمية كثيرة عكست آلية التفكير النسبية في التعامل العلمي مثل ماهية النمط الكوانتمي وآلية سلوك الإلكترون فيه، العشوائية في الطفرات الجينية ومآلاتها الغائية، والوجود والغايات الجوهرية فيه. مثل هذه الألغاز دخلت إلى حيز المنهج النسبي؛ إذ لا حتمية يمكن أنْ تسعف في تأسيس نمطٍ علمي واضح، وهذا ما قادنا إلى محاولة فهم المسار الفلسفي للعلم مع انبثاق الثورة الرقمية الحديثة المتمثلة في الذكاء الاصطناعي.

لم يعدْ شكل الفلسفة وأدواتها الساعية لتحديد مسارات العلم وغاياته بعد العصر الرقمي الحديث أسير نسبيته الشكية، وكذلك لم يرجعْ إلى حتميته الجامدة، بل يتحرك إلى تفرعاتٍ أكثر منطقية ذي صبغة رياضية؛ يحاول أنْ يلملم شتات الأنماط الفلسفية الساعية إلى تأمين الحركة العلمية دون إعاقة للتوجهات العلمية الحديثة التي يمكن أنْ نقول أنها بدأت تخلع ثوبها العلمي التقليدي؛ لتتجاوز مرحلة النسبيةِ والعشوائية، وتبدأ مرحلةً حديثةً تحاول أنْ تربط العلم بمشتقاتها الرئيسة «الحديثة» (العقل والدماغ الإنساني والآلة) بنمطها الرقمي «الرياضي» الحديث «الذكاء الاصطناعي» ساعية إلى بلوغ منطق الخوارزميات الأسمى.

هنا تتضح بعض خيوطِ شكل هذه الفلسفة العلمية الحديثة الرامية إلى تحديد الماهية العلمية ذي الصبغة الرقمية ونظريتها المعرفية التي تتناول فهم الآلة مثل تناولها لفهم الإنسان من حيث المبدأ التفكيري «العقلي» والعاطفي «النفسي»، ومع توأمة الإنسان والآلة؛ نرى هذه الماهية الفلسفية الحديثة تبدأ مرحلة ما يمكن أنْ نطلق عليه الفلسفة الرقمية التي تحاول أنْ تقترب من الآلة وأنماطها التفكيرية بل والوجدانية بوجود التداخلات الإنسانية المؤثرة «التي توشك أنْ تبتعد عن المشهد»، وبوجود النزعة المنطقية الرياضية العاملة في الحيز الرقمي؛ حيث بات من الضرورة العقلانية والتجريبية المحضة طرح الأسئلة الصعبة الذي طالما اعتمد طرحها -سابقًا- على المنهج الاستقرائي ذي النمط التجريبي «التقليدي»، والتي يستعان بها في تحديد النموذج العلمي المناسب؛ ليكون بمثابة الحل للسؤال المشكِل، لكن فلسفة العلم -مع وجود الدماغ الرقمي ذي خاصية التعلم الذاتي الذي يقود مسيرة التطوير العلمي في كل مجالات حياتنا- ستتخذ منحى مختلفًا يناسب هذا الكائن الرقمي الذي سيتولى القيادة العلمية وثورتها الصاعدة؛ وحينها ستتخذ خوارزمياته فلسفةً أكثر احترافيةً تناسب الآلة ومنطقها الرياضي الخاص.

لا أدعي هنا أن الفلسفة التقليدية ستسقط بل ستعمل في زواياها العلمية السابقة التي لم تدخلْ عالم الرقمية أو تندمج بها إلا أن هذا النوع من العلم وفلسفته بوجود عالم رقمي شامل سيكون بعيدًا عن المشهد المستقبلي ولو بشكل تدريجي؛ إذ إن الآلة «الرقمية» ستكون حاضرةً في كلِ المظاهرِ العلمية بما في ذلك أدق مكوناتنا البيولوجية المعقدة. لعلي لم أقترب كثيرًا من محاولة الكشف عن المسار الفلسفي العلمي الحديث؛ كون معالم هذه الفلسفة في بداياتها، ولا أجد التفاصيل الكافية للتعمق في هذه الولادة الحديثة لفلسفة العلم مع ميلادِ الثورةِ الرقميةِ الحديثة. لعل المستقبل القريب سيكون كفيلًا في إظهار تفاصيل هذه الفلسفة التي ستحدد آلية تفكير العلم في العصر الرقمي الحديث.

د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني