فلسفة التاريخ

30 مارس 2024
30 مارس 2024

كتابة التاريخ ليست أمرًا سهلًا وإنما هي من أصعب الكتابات في كل المعارف الاجتماعية والأدبية، ولا أعني التاريخ بمعناه الأدبي والسردي، وإنما الكتابة بالمعنى الفكري والفلسفي، حيث يوظف المؤرخ كل العلوم المساعدة، ابتداء من امتلاك أدوات المنهج البحثي، وصولًا إلى قدرته على توظيف ما يمتلكه من معلومات بشأن الموضوع الذي يود الكتابة عنه، ولعل القضية الأهم في كتابة التاريخ هي تفسير أحداثه ووقائعه، وهي القضية الأصعب منذ أن انشغل الفلاسفة والمؤرخون بالكتابة التاريخية، ومحاولة التعرف على ما خفي من أحداث ظلت غامضة، لدرجة أن البعض فسر الوقائع التاريخية تفسيرًا خرافيًا أو دينيًا، وهو أمر تولاه منذ فجر التاريخ القاصون والحكَّاؤون، وقد خضعت هذه الروايات لقدر من الخيال والمبالغة وإضفاء القداسة على الوقائع والأحداث التاريخية، وهو ما يفسر الاضطراب الكثير فيما ورد في المصادر التاريخية، سواء في ما كتبه العرب أو الأوروبيون.

رغم أن جميع هذه المصادر في حاجة إلى إعادة النظر فيما ورد فيها من معلومات، ولهذا فهي في حاجة إلى إعمال العقل والبحث عن مصادر جديدة للاقتراب من معرفة الحقيقة، وخصوصًا بعد أن تطورت العلوم والمعارف وظهور النزعة التطبيقية وفقا لما وصل إليه العالم من اكتشاف نظريات مذهلة في كل مناحي العلوم التجريبية، لذا فعلم التاريخ في حاجة إلى مواكبة هذه الثورة الجديدة في المعرفة، لدرجة أن المؤرخين الجدد في أوروبا أخضعوا الوقائع التاريخية في الكتب المقدسة للنقد، أعلوا من شأن النزعة الإنسانية وتحرير العقل من سلطة الدين، بعد أن أصبحت سلوكيات البشر موضوعًا للتاريخ دون النظر إلى الأعراق والأديان، فضلًا عن استبعاد فكرة أثر القوى الغيبية في صناعة التاريخ.

كان ڤولتير ( ١٦٩٤- ١٧٧٨)، أول من قال بالعلاقة بين الفلسفة والتاريخ، وأول من ابتكر مصطلح فلسفة التاريخ، وقد اعتبره كثير من المؤرخين والفلاسفة بمثابة الأستاذ الأول لعلم التاريخ، بعد أن أسقط من حساباته العوامل الروحية والأخلاقية والاجتماعية، وتبعه فيما بعد مؤرخون وفلاسفة قالوا إن التاريخ يمضي نحو الحرية، وأنه يخضع لقوانين علمية مثله مثل كل العلوم الطبيعية، وإنه يمضي على خط واحد لكن ڤولتير من أوائل الذين قالوا بإعلاء قيمة العقل الذي يصل بالإنسان حتما إلى قدر من التوازن، وهو ما يُمَكِّن البشرية من وضع أسس العدالة والنظام وإعمال القانون.

أثارت آراء ڤولتير وتلاميذه ضجة كبيرة، حينما راح يطرح بعض نظرياته وأفكاره، وهي نظريات اختلفت عن نظريات أقرانه، فضلًا عن اختلاف ما قال به عن نظريات ابن خلدون ( ١٣٣٢-١٤٠٦)،الذي قال: التاريخ يدور في مساره كعجلة دائرية تتعاقب عليها الحضارات، وإن البشرية لا تتقدم في مسار مستقيم خلال مراحل التاريخ، ولا على شكل دائرة، وإن التعاقب الدوري لا يعني ارتدادها إلى نفس البداية، بل تمضي وقائع التاريخ في مسار لولبي وكل دورة تعلو سابقتها، وإن العناية الإلهية هي التي تحدد مسار التاريخ، وإن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا ولكنه يأتي على صور جديدة.

أحدثت آراء ڤولتير ردود فعل كبيرة، خلال القرن الثامن عشر، حينما قال: التاريخ نوع من الفلسفة وأن الفيلسوف فقط هو المؤهل لكتابة التاريخ، ولم يكتف ڤولتير بطرح نظرياته في المنتديات، بل راح يكتب التاريخ من منطلق رؤيته الفلسفية، وأقدم على نشر كتابه (حياة شارل الثاني)، وهو بمثابة دراسة وثائقية نقدية تحليلية متأنية، ويمكن وصف ما جاء في هذا الكتاب بأنه العمل العلمي الأول الذي وُظفت فيه الفلسفة في كتابة التاريخ، أعقب ذلك بكتاب آخر (خطابات فلسفية) وقد حفل بمزيد من الآراء والملاحظات عن حركة التاريخ، ثم نشر كتابا ثالثًا (عصر لويس الرابع عشر) وقد أبدى فيه براعة مذهلة في تحليل الأحداث والأشخاص، تجاوز كثيرا المفهوم التقليدي للكتابة التاريخية باعتبارها سردًا للأحداث.

أعتقد أن من وضع البذرة الأولى لكتابة التاريخ بالمعنى العلمي هو ڤولتير، هذا الفيلسوف الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، وخصوصًا عندما نشر كتابه (أخلاق الأمم وروحها)، وهو أيضا أول من لفت الأنظار لأهمية تاريخ الفكر، مؤكدا على أن الفكرة العميقة والخفية في صناعة التاريخ هي تقدم الفكر الإنساني، وقد رأى أن أحداث التاريخ تفتقد إلى الحكمة والفلسفة، وأشاد كثيرا بدور العقل القادر على إزاحة الخرافات والجهل والتعصب، وهاجم بشكل عنيف المؤرخين الذين أرجعوا كل الأشياء إلى العناية الإلهية، وقد استبعد كل هذه الآراء بحجة أن الله خلق العالم وفقا لقوانين ثابتة، ومنح الإنسان العقل ليحسن استخدامه، ولهذا فالتاريخ لا يسير وفقا لمفهوم العناية الإلهية لدى اللاهوتيين، وإنما بمقتضى العقل البشري نحو الأفضل والأكمل.

كان التاريخ قبل ڤولتير فرعا من الأدب، يُعنى به الرهبان والملوك بهدف الإعلاء من شأن القديسين، ولم يكن في أوروبا حتى ظهور ڤولتير ما يمكن تسميته بعلم التاريخ، وإنما كانت هناك بعض المدونات التي كُتبت في الكنائس، فضلًا عما كتبه مؤرخو اليونان والرومان في العصور القديمة، ومع ظهور عصر النهضة الإيطالية، وظهور النزعة العلمية للعلوم التجريبية التي توجت باكتشافات (إسحاق نيوتن) للجاذبية، و(جالبيرت) للمغناطيسية، وما صاحب ذلك من التطور الهائل في علوم الكيمياء والفيزياء والطب، واكب ذلك ظهور تيار جديد في الدراسات التاريخية يهدف إلى إخضاع الوقائع التاريخية التي وردت في الكتب المقدسة إلى النقد وتحرير الإنسان من سطوة الكنيسة، واستبعاد القوى الغيبية عن مسار التاريخ باعتباره فعلًا إنسانيا، أعقب ذلك ظهور تيار جديد يدعو إلى إخضاع كل شيء للنقد وإعمال العقل، وهو السياق التاريخي الذي ظهر فيه ڤولتير متسلحا بثقافة فلسفية جديدة، مؤمنا بفكرة أن الفيلسوف فقط هو المؤهل لكتابة التاريخ، وإذا كان ڤولتير هو أول من وضع مصطلح (فلسفة التاريخ) إلا أنه أغفل الجوانب الروحية والخلقية والإنسانية في صناعة التاريخ، وأعتقد أنه قد جانبه الصواب وخصوصًا حينما قال بأن التاريخ شأنه شأن العلوم الطبيعية، وأنه يمضي في خط مستقيم واحد، وهى رؤى في مجملها ثبت أنها لا تكفي لقيام الحضارة واستقرار الأمم، بل البشرية دائما في حاجة إلى مُنظرين يحررون الإنسان من عبوديته في ظل قواعد قانونية وتشريعية تنشئها الحكومات في سبيل الوصول بالمجتمع إلى ما يمكن تسميته بالسلام الاجتماعي.

أعتقد أننا في عالمنا العربي وفي جامعاتنا ومراكزنا البحثية في حاجة إلى إعادة قراءة ما كتبه ڤولتير، والإفادة منه في كثير من القضايا التاريخية، التي يضطلع بكتابتها المؤرخون، وخصوصًا في علاقة الفلسفة بالتاريخ، وأن ما قال به ڤولتير في هذا الجانب جدير بالعناية والدراسة، ولهذا فأنا أعتقد أن دراسة الفلسفة شرط من شروط المؤرخ، وعلى ضوء كل ما سبق أعتقد أن تاريخنا العربي في مجمله بحاجة إلى إعادة النظر على ضوء هذه الأفكار والنظريات النقدية لعلنا نصلح ما أفسده الغرب في كتابة تاريخنا العربي.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).