فكرة الدولة بوصفها اجتماعا سياسيا
لعل من أهم التعثرات التي تضطرب فيها قضايا الاجتماع السياسي في المنطقة العربية؛ ما يتصل بالتشوش الفكري القائم على إمكانية تعايش وعي ما للتناقضات والاختلافات دون الشعور بأنها بالفعل كذلك، أي بوصفها اختلافات وتناقضات يقتضي اهمالها بتلك الحال، مع مرور الزمن، التسبب في إشكالات خطيرة، قد لا ينتبه لها الناس، لكنها في نهاية الأمر ستكون سببا في وعي مغلوط لفكرة الاجتماع السياسي باعتباره صناعة، أي دولة، ووعي فكرة الجماعة التي تجترح تلك الصناعة أي شعب.
ويمكننا أن نجد نموذجا للأفكار التي خلقت ذلك التشويش في مثل فكرة « الإسلاموية» التي ابتدعها حسن البنا ظانا؛ أن شمولية الإسلام قد تعني بالضرورة أنه دين ودولة، كما بشر بذلك في خطاب الحركة التي أسسها عام 1928 من القرن الماضي، إذ بدت فكرة «الاسلاموية» كما لو أنها تطابقا عصريا مع فكرة دولة (وستفاليا)، فيما الحقيقة لم يكن في ذلك الوقت المبكر من الحماس، في وسع أحد التنبيه لفكرة «الإسلاموية» بوصفها منهجا مفخخا ذا قدرة تدميرية للاجتماع السياسي الحديث لدولة «وستفاليا» (وهو ما رأيناه بعد ذلك في النماذج الدولتية الإسلاموية الهشة، كما في السودان خلال عهد نظام البشير - الترابي، وفي بعض النماذج الأخرى في المنطقة العربية).
لقد كان نموذج دولة وستفاليا، الذي قاس عليه حسن البنا فكرته للإسلاموية، قائما بالأساس على نقيض الاجتماع السياسي ما قبل الحديث، أي ذلك الاجتماع الذي كان يقوم على مفاهيم مؤدلجة للدين أو العرق (القبيلة).
ذلك أن شروط صناعة الدولة العربية الحديثة كانت مختلفة عن نشأة تلك الدول الأوربية التي اقتضتها ضرورات اجتماع سياسي تحدى نهج إمبراطوريات دينية في أوروبا أعاقت الاجتماع السياسي، آنذاك، خصوصا بعد حرب الثلاثين عاما التي انتهت بمعاهدة وستفاليا عام 1648. وفي ظل الذهول عن التحول الذي تغير به العالم عبر الحداثة السياسية منذ 4 قرون، كان ظن حسن البنا أن قياس الدولة القومية (على غرار نموذج وستفاليا) على الخلافة الإسلامية مما يمكن التصالح معه نظريا، فيما كانت هناك إشكالات كثيرة تعيق أي خطوات تطبيقية لذلك القياس الفاسد (كما تبين لنا اليوم) في النماذج الدولتية الهشة والفاشلة لأنظمة الإسلام السياسي، لاسيما مع التجربة السودانية التي دامت 30 عاما، وأثمرت انقساما وحروبا أهلية، وفسادا عريضا، وتخريبا للشأن السياسي العام.
إن فشل دولة الإسلام السياسي في هذه الأزمنة، الآن وهنا، تؤكد لنا أمرا آخر يتصل بالإعاقة الأيدولوجية التي تعطلها (حتى ولو جاءت عبر الديمقراطية) وهذا يعتبر أمرا فريدا في القياس لأن الانسداد النظري في هذه الحال هو انسداد لا يقوم على فساد ضروري في التجربة والممارسة فقط، بل كذلك على فساد الأسس النظرية للإيدلوجيا! هكذا سنجد أن توظيف الدين كأيديولوجيا للدولة سيقع في تناقض؛ فكرتي سلطة الضمير والإكراه، الأمر الذي يفسد فكرة الابتلاء الأساسية في الدين.
وفي الوقت ذاته تشكل القبيلة التي قد نعتبرها حدودا بدائية للفاشية، إعاقة أساسية لفكرة الدولة؛ فالقبيلة لا يمكن اختبار الدولة بمقاييسها دون الوقوع في تناقضات خطيرة جدا، منها؛ أنها تتناقض مع فكرة الخاص والعام، كما تتناقض مع فكرة المتخيل المشترك (تصور الوطن) إلى جانب تناقضها مع فكرة المواطنة ذاتها.
ذلك أن فكرة الدولة التي تقوم على تعاقد الشعب كجماعة سياسية مصنوعة، لا كجماعية طبيعية موهوبة (القبيلة) حول المواطنة الدستور والحدود السيادية، ستعني في حال التواضع عليها كحدود سياسية، أن يكون أي مواطن يمتلك شبرا واحدا في آخر حدود دولته سيحق له التمتع بكل شبر من الحدود السيادية والسياسية للدولة التي ينتمي إليها. كما سنجد هنا، أن فكرة حقوق المواطنة، وحدها، من تمنح أي مواطن أن يكون من حقه المنافسة في حكم الدولة، متى ما استوفى شروط التأهيل لرئاسة المنصب. هذا إلى جانب أن الدستور الذي يقتضي أن تكون المدن في الدولة الوطنية ملكا قوميا لساكنيها من كافة مواطني الدولة، (وليس فقط الجماعة الأصلية التاريخية لأي رقعة معينة في الدولة) ومتى ما كف أي تصور لجماعة في الوطن عن تمثل مبادئ الدستور فإن ذلك سيعني سيناريو الفوضى لامحالة كما حدث مرة للسودان!
