غزو أوكرانيا .. ومرحلة جديدة في النظام الدولي!!

28 فبراير 2022
28 فبراير 2022

بعد غموض وتلاعب أربك الكثيرين، نفذ الرئيس الروسي بوتين قراره بغزو أوكرانيا فجر الخميس الرابع والعشرين من فبراير الماضي، وذلك بعد اعترافه بجمهوريتي دونيتسيك ولوهانسيك الانفصاليتين في إقليم دونباس جنوب أوكرانيا وإصدار أوامره للجيش الروسي بحفظ أمن الجمهوريتين ونزع سلاح الجيش الأوكراني، الذي اتهمته موسكو بتنفيذ «إبادة جماعية» ضد المواطنين من أصل روسي في دونباس على حد قول موسكو.

وأيا كانت المبررات التي ساقتها موسكو لاقتحام الحدود الأوكرانية والدخول بالقوات الروسية حتى العاصمة كييف، وتدمير عدد كبير من قواعد الجيش الأوكراني والبنية التحتية الدفاعية لأوكرانيا، ومن ثم تعرضها لخطر التفكك، أو على الأقل عدم العودة إلى ما كانت عليه الدولة الأوكرانية قبل الرابع والعشرين من الشهر الماضي، فإن بوتين وضع الولايات المتحدة وأوروبا والعالم ككل أمام أمر واقع محدد، وقابل للتطور إلى الأسوأ، وعنوانه باختصار أن روسيا الاتحادية قادرة على حماية مصالحها وأمنها الوطني، بعد استهانة واشنطن وحلف الناتو بمخاوف روسيا حيال أوكرانيا وبمتطلبات أمنها الوطني.

ومع الوضع في الاعتبار مواقف مختلف الأطراف المعنية بأوكرانيا ومستقبلها،، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما تأثير ما يحدث في أوكرانيا على النظام الدولي، وهل سيكون هناك نظام دولي جديد بعد غزو أوكرانيا كما أشار البعض؟ وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي: أولا: إن احترام سيادة الدول ونظم الحكم فيها، يمثل أحد مبادئ النظام الدولي الذي انبثق عن الحرب العالمية الثانية، ووضع ميثاق الأمم المتحدة مبادئه وقواعده الأساسية التي تتطور، مع استمرار تلك المبادئ والقواعد الأساسية، ومن ثم فإن ما حدث لا يتفق بالطبع من حيث المبدأ، مع القانون والشرعية الدولية، بغض النظر عن العناصر المتداخلة والمتشابكة التي وصلت بالموقف إلى ما هو عليه، خاصة أنه من غير الممكن النظر إلى ما حدث من زاوية واحدة..

ومع الوضع في الاعتبار أن الانتهاكات الأمريكية والغربية للقانون والشرعية الدولية عديدة ومنها على سبيل المثال إنشاء دولة بنما باقتطاعها من كولومبيا، لحفر قناة بنما عام 1903 وسيطرة واشنطن على القناة طوال القرن العشرين، وقيام الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان بإلقاء القبض على الجنرال نوريجا رئيس بنما ونقله إلى واشنطن ومحاكمته وسجنه فيها بتهمة تهريب المخدرات، وكذلك الإسهام في تفكيك يوغسلافيا السابقة في منتصف التسعينيات، وغزو أفغانستان عام 2001، وغزو العراق 2003، وتدخل الناتو في ليبيا وإسقاط القذافي عام 2011.

وهذه الأمثلة وغيرها تشير بوضوح إلى استمرار اللجوء إلى استخدام القوة في العلاقات الدولية عندما يقدر طرف ما حاجته إلى ذلك وقدرته على مواجهة التبعات المترتبة على هذه المخالفة للقانون والشرعية الدولية بغض النظر، عن ما يتم إعلانه من مبررات من جانب الطرف الذي يلجأ إلى ذلك، ومن المؤسف أن هذه الممارسة المتغطرسة انتقلت إلى قوى إقليمية وإلى كيانات إرهابية في مناطق مختلفة من عالم اليوم ومنها الشرق الأوسط، ورغم خطورة هذه الممارسات المتمثلة في اللجوء إلى القوة لحل المنازعات أحيانا، إلا أن النظام الدولي ظل قائمًا ومستمرًا بملامحه ومبادئه الأساسية، بغض النظر عن مدى التزام القوى الدولية المؤثرة بتلك القواعد والمبادئ.

وليس من المبالغة في شيء القول بأن مبادئ النظام والقانون الدولي تظل أكثر قابلية للتطبيق ضد الدول الأضعف أو الأقل قوة، خاصة إذا توافقت الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي على ذلك، وهذه هي إحدى أهم المشكلات التي يواجهها النظام الدولي، وكذلك النظم الفرعية بشأن كفاءة وفعالية النظام ومدى كفاءة وديمقراطية العمل من خلاله. وثغرات اختراقه والعمل من خارجه وملابسات ذلك في كل حالة على حدة.

أما بالنسبة للعقوبات التي يمكن أن يفرضها النظام الدولي، وكذلك الإقليمي الفرعي، فإنها تخضع للكثير من الاعتبارات التي تحدد مدى إمكانية تطبيق العقوبات ونوعيتها، وبالطبع مدى الالتزام بها عمليا وهو أمر معقد وتتفاوت الدول في مدى التزامها وفق كل حالة على حدة..

ثانيا: إنه إذا كانت واشنطن والاتحاد الأوروبي يتحملان جزءا من المسؤولية في دفع الأزمة إلى ما وصلت إليه من خلال تجاهل المصالح الروسية من ناحية، وإعلانات الدعم لأوكرانيا ومدها بمساعدات عسكرية من ناحية ثانية، فإن سقف الموقف الأمريكي وموقف أوروبا وحلف الناتو لم يتجاوز التلويح بفرض عقوبات مالية واقتصادية على موسكو، مع التأكيد على عدم التدخل العسكري ضد روسيا في حالة الغزو الروسي، وهو ما اكتشفت أوكرانيا أنه حقيقة إذ أنها تواجه منذ الخميس الماضي جحافل القوات الروسية وحدها، ولم تنجح مناشداتها لواشنطن والغرب، والتي وصلت إلى حد دعوة القوات الأمريكية إلى التدخل المباشر ضد القوات الروسية لخطورة ذلك على الأمن الدولي، ومن ثم فشلت في دفع أمريكا وأوروبا والناتو إلى التدخل المباشر، وهو ما قدره بوتين بشكل صحيح.

يضاف إلى ذلك أن موسكو أعلنت، وبشكل تكتيكي، أن القوات الروسية تقوم بمهمة خاصة في أوكرانيا ولا تهدف للسيطرة على كييف، وذلك في محاولة للحد من ردود الفعل على العمليات الروسية.

غير أن ما حدث بالفعل هو أن موسكو طورت مطالبها من أوكرانيا لتصل إلى إعلان نيتها في نزع سلاح أوكرانيا، وإلى الدعوة لتغيير الحكم في أوكرانيا ليكون ممثلًا لكل طوائف الشعب الأوكراني، وكذلك السيطرة على مناطق استراتيجية أوكرانية بما فيها ميناء أوديسا على البحر الأسود، وبالطبع دخول كييف والسيطرة على بعض المدن حولها، وبذلك تكون روسيا قد قامت بعملية غزو تتجاوز منطقة جنوب وشرق أوكرانيا، وهو ما ينقل الموقف إلى مستوى آخر.

وأمام هذا التطور، الذي فرضته طبيعة الحرب والاجتياح الروسي، فإن حاضر ومستقبل أوكرانيا أصبح على المحك، وعلى مفترق طرق وقابل لكل الاحتمالات. ولذا فإنه لم يكن مصادفة أبدًا أن يعلن الرئيس الأوكراني زيلينسكي عن استعداده للتفاوض مع موسكو، وقد سارع بوتين بالموافقة على التفاوض، ولكن الرئيس الأوكراني تراجع بسبب رغبة روسيا فرض شروطها بالطبع ومع عدم استبعاد حدوث مفاوضات روسية-أوكرانية كسبيل ضرورب للسير نحو توافق بشأن إنهاء الوضع الراهن، فإن أي مفاوضات ستقدم فيها أوكرانيا تنازلات لموسكو تستجيب لعدد من مطالب روسيا على الأقل، ومن ثم لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الغزو..

ثالثا: إن الغزو الروسي لأوكرانيا يضع النظام الدولي مرة أخرى -وليست أخيرة- أمام حالة انتهاك لقواعده، وحتى بعد تسوية الأزمة، والوصول إلى توافق روسي أمريكي-أوروبي-أوكراني حول مستقبل أوكرانيا وبما يستجيب لمصالح روسيا، فإن غزو أوكرانيا، والتأييد الصيني للمصالح الروسية وتفهم بكين للموقف الروسي سيؤثر بالضرورة على النظام الدولي وكيفية تفاعل القوى الدولية الكبرى وتعاملها مع المشكلات الدولية المختلفة.

وإذا كانت واشنطن وأوروبا قد فقدتا قدرا من المصداقية في التعامل مع الأزمة الأوكرانية، كما ظهرت حدود قدرة الناتو على العمل، فإن روسيا خرجت أكثر قوة وأصبحت كلمتها ذات صدى أكبر على المستوى الدولي، وهو ما سيؤثر بالضرورة على تعامل روسيا وأمريكا وأوروبا والصين بالطبع مع القضايا الدولية الحالية والتي ستظهر خلال الفترة القادمة، وهو ما سيمهد بشكل أكبر لتبلور وظهور «مرحلة الأطراف المتعددة على قمة النظام الدولى» ومن ثم انتهاء مرحلة الأحادية القطبية الأمريكية التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991.

ومع إدراك أن هذا التطور لن يظهر غدًا ولكنه سيحتاج بعض الوقت، فإنه من المؤكد أن هذه المرحلة التي تبزغ إلى حيز الواقع لا تعني مولد نظام دولي جديد، ولكنها تعني تطور للنظام الحالي ليستوعب تفاعلات التدهور السياسي للقوة الأمريكية، وبزوغ الصين بشكل متزايد ونزوع موسكو لفرض سطوتها على محيطها وفي الشرق الأوسط وذبول القوة الأوروبية بشكل ملموس اكبر من أي وقت مضى.

أما العقوبات التي فرضتها واشنطن والاتحاد الأوروبي على موسكو فإنها سلاح ذو حدين، ولن تعاني منه روسيا وحدها، بل أمريكا وأوروبا والنظام الاقتصادي العالمي، وكلما سارعت موسكو في التوصل إلى تسوية مقبولة مع أوكرانيا، فإن ذلك سيضعف العقوبات المفروضة عليها، وفي كل الأحوال فإن الأمم المتحدة والنظام الدولي يواجه مرحلة مخاض قلقة وخطرة أيضا، خاصة إذا انتهجت قوى دولية أو إقليمية أخرى نهج بوتين في أوكرانيا..