غزة في ظل احتدام الحرب واقتراب شبح المجاعة

28 مارس 2024
ترجمة: أحمد شافعي
28 مارس 2024

ارجعوا بذاكراتكم إلى أوائل عام 2022، أي منذ أكثر من عامين. كان تدخّل فلاديمير بوتين في أوكرانيا صدمة، وقطيعة مع عقود من الإجماع السياسي، وقد عومل معاملة العمل العدواني الذي لا يمكن القبول به لوهلة أو الذي لا تليق مسالمته، وإنما لا بد من المسارعة إلى صده. وجاءت الإدانات والمراثي والتعهدات بالدعم لكل من جهود أوكرانيا العسكرية وشعبها المشرد لتشير جميعها إلى شيء واحد، وهو أن ما حدث انحراف لا يمكن السماح له بالمرور.

وعانت روسيا منذ ذلك الحين خسائر جسيمة ويشار إلى الحرب الآن بوصفها «مستنقعا» لبوتين، لكنها مرت. فالدعم الأمريكي بالسلاح يتناقص، وحزمة المساعدات الكبيرة تم تعليقها وحظرها لشهور الآن في مجلس النواب الأمريكي من خلال خبث من الحزبين. ومما يلفت النظر أن التدخّل تدنى من خبر يتصدر الأخبار السياسية إلى محض مادة ثانوية تجاهد كي تجذب الاهتمام والتعاطف والغضب، فمن فحش الحرب أنها إذا طالت بالقدر الكافي، تعيد الحياة ترتيب نفسها بالالتفاف عليها.

والآن تخيلوا عملا عدوانيا لم يقابل بإدانة عالمية كاملة، أو بتعهدات بحزم المساعدات الهائلة أو الدعم أو وضع الخطط للاجئين، بل تخيلوا في واقع الأمر عملا عدوانيا يشهد دعما عسكريا ومساعدات لكنهما يقدَّمان للطرف الذي يقتل المدنيين ويغزو أرضهم. كم تزداد حينئذ صعوبة المحافظة على الإحساس بالخطر والغضب والبقاء في صدارة العناوين ومواصلة الضغط على الساسة بل والمحافظة على بقاء الأمر حيا في قلبك؟ لقد مضت قرابة ستة أشهر منذ أن أطلقت إسرائيل هجومها في غزة، ولكن حتى مع انزياح صور الأطفال الموتى المدفونين وسط الركام لصور الأطفال الموتى الذين أهزلهم الجوع، يبقى إحساس أكيد بالتلاشي التدريجي.

وبعض هذا التلاشي مرتَّب، فما الذي يجعل الساسة يحافظون على انصباب الضوء والتركيز على شيء يثير الأسئلة الغريبة في وجوه أولئك الساسة أنفسهم وهم الذين إما دعموا أعمال إسرائيل أو تباطؤوا في إدانتها. والنتيجة ليست فقط التجاهل وإنما التهوين. إن نطاق أزمة غزة لا يتضح لنا من خلال منصات الرئيس الأمريكي أو المتحدثين باسمه ممن لا يزالون يتحدثون (حديثا صارخا) عن جرائم الحرب الروسية التي لا يحب التسامح معها أو القبول بوجودها. في الذكرى السنوية الأولى للتدخل الروسي في أوكرانيا، وجَّه وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن خطابا إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قال فيه إنه: «يوما بعد يوم من الأعمال الوحشية الروسية، يسهل أن يصيبنا الرعب بالخدر، ونفقد القدرة على الإحساس بالصدمة والغضب. لكننا لا يمكن أن نسمح للجرائم التي ترتكبها روسيا بأن تصبح الوضع المعتاد الجديد. فبوتشا ليست بوضع طبيعي. وماريبول ليست بوضع طبيعي. وإربين ليست بوضع طبيعي. وقصف المدارس والمستشفيات والعمارات السكنية ليس بوضع طبيعي».

وغزة ليست بالوضع الطبيعي، لكنكم لن تسمعوا بلينكن يناشدكم ألا تتبلد مشاعركم تجاهها، بل إن ذلك سيأتي من منظمات حقوق الإنسان والخبراء والتقارير وعمال الإغاثة ممن ينبهون إلى أن وضعا يرقى إلى «إبادة تامة» ليس فقط بالوضع الاستثنائي ولكنه وضع يستعصي على الوصف. وبرغم أن جهودهم جميعا مثيرة للإعجاب وذات مصداقية، فهي لا تتجاوز عنق زجاجة القوة اللازمة لإحداث أي تغيير.

ولذلك فإن حقيقة من قبيل أن هجوم غزة قد أدى إلى «أضخم مجموعة أطفال مبتوري الأطراف في التاريخ» أو أن الأمور إذا ما استمرت على حالها فإن غزة سوف تقع في براثن «مجاعة هي الأشد منذ الحرب العالمية الثانية»، هي حقيقة لا يتصرف بناء عليها أنصار هجوم إسرائيل وضامنوها ـ من العمليين أو المعنويين على السواء ـ فلن يتجاوزوا المطالبات متزايدة الهزلية بأن تتصرف الحكومة الإسرائيلية بمزيد من التعقل. فدائما ما يتعرض تضخيم هذه الأهوال التاريخية لشيء من الضبط المفتعل الذي يجعله أهدأ مما يجب أن يكون عليه، وما يجب أن يكون عليه في الوقت الراهن لا يقل بحال عن الحد الأقصى.

وأيضا، ذلك الصمت يخنق ويزيد من صعوبة عمل أطراف من الرأي العام يحاولون منذ أشهر الآن عبر التظاهر والحشد أن يحافظوا على الصوت في أعلى درجة ممكنة، وأن يقولوا ببساطة إن ما يحدث غير طبيعي. وليت رسالتهم تلقى التجاهل والإعراض وحسب، ولكنها تتعرض لقمع كبير من خلال محاولات لمنع المظاهرات كلية أو الإيحاء دونما كلل بأن لها أغراضا أخرى هي أي شيء إلا أن تكون الغضب على مصير أهل غزة أو الخوف عليهم. والنتيجة الغريبة هي أن مئات آلاف يجوبون شوارع العالم بصورة أسبوعية ويقولون لممثليهم بما يشعرون به، فلا تلقى أصواتهم إلا الإخراس، أو يتحدث غيرهم باسمهم، فيصورونهم على غير ما هم عليه.

وهناك أيضا التعب. التعب من كثرة الغضب، ومن تضليل الساسة، ومن التعرض لأحداث لا يمكن لإنسان أن يشهدها لفترة طويلة من الزمن دونما إحساس ما بالتبلد وتسرب شعور الدفاع عن النفس. ثمة إجهاد وانتكاس مزدوج يحدث من جراء التعرض للمشاهد والبيانات، التي يعرضها مسؤولون إسرائيليون أو تؤخذ من عدساتهم لمدنيين عزل يتعرضون للقتل بفعل صواريخ طائرات مسيرة، في ظل صمت عن ذلك من جانب الجهات الرسمية، حتى مع حضور الصور عبر رسائل واتساب ومواقع التواصل الاجتماعي. ومشكلة حدوث الأمور التي لم نسمع بها من قبل أنها حين تحدث تصبح أمورا سمعنا بها من قبل.

لكن الإحساس بطبيعية الوضع يأتي أيضا من النجاح في عرض أعمال البشر بوصفها من أعمال الرب. فكلما مر الوقت ولم يحدث شيء في غزة، ازداد استقرارها في مجموعة الصراعات العالمية باعتبارها شيئا بات الآن شديد التعقيد («مستنقعا» إن شئتم القول) يصعب التعامل معه. وهو بطريقة ما أمر طبيعي، بمعنى أن التحالفات السياسية والتركات التاريخية التي أحدثته هي أمور لا يمكن التراجع عنها دونما إخلالات كبرى بتسويات وترتيبات سياسية وعسكرية وعرقية قائمة منذ عقود. وكيف يمكن ألا يتمكن التعب عندما يصحو المرء كل يوم على معركة مع آلهة الأوضاع الجيوسياسية؟

وهذا ما يعول عليه الجناة والمحرّضون. أن تأتي لحظة ـ بغض النظر عن اشتداد المتابعة أو الحزن ـ تنزاح فيها الأمور ببساطة من خلال القوة المحضة للطبيعة البشرية والدورات الإعلامية والانطواء السياسي وبخاصة مع اقتراب الانتخابات الحاسمة. ويبدو أن اللحظة التي يؤتي فيها الرهان ثماره تقترب.

ولكن مجال الاشتباك ونطاقه العالمي طالا بالفعل أكثر مما كان أي أحد يتوقع فأحبط ذلك جهود الساسة الرامين إلى إدارة الرأي العام. ومع اقتراب شبحي غزو رفح البري والمجاعة المتفاقمة، قد يستمر الضغط على إسرائيل وأنصارها في تحدي رهانات الساسة.

نسرين مالك كاتبة عمود رأي في صحيفة جارديان