عيون الرقابة ضمائر المخلصين

08 أكتوبر 2023
08 أكتوبر 2023

ليست الرقابة محض مؤسسة وحسب، حتى وإن كانت تلك المؤسسة معنية بإعمال القانون ورعاية حفظ المال العام، سعيا لعدالة مجتمعية مطلوبة، وترشيدا لموارد بشرية فاعلة، وثروات وطنية مستثمرة خير استثمار لصالح الوطن ومواطنيه، بل هي أوسع من ذلك في مفهومها حينما نستشعرها جميعا -دون رقيب إلا الله، ودون مشرف إلا ضمائرنا- أمانة عظمى نحملها على عاتقنا، ومسؤولية وطنية، بل إنسانية عامة نُحاسب عليها قيميّا وأخلاقيّا قبل محاسبتنا قانونيا.

لا يمكن إنكار اهتمام وعناية المواطنين بتقرير ملخص الرقابة للمجتمع السنوي الصادر عن جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة في مطلع هذا الشهر، وهو التقرير الثاني الذي يصدره الجهاز متلمسا خلاله المأمول من الشفافية، والمبتغى من المشاركة المجتمعية في متابعة وتقويم أداء المؤسسات والأفراد إيمانا يقينيا بأن الرقابة مسؤولية تفاعلية جماعية وليست مجرد مهمة وظيفية يقوم بها بعض الموظفين لتسقط عن البقية، كما لا يمكن إنكار تفرد التقرير هذا العام بالكثير من التسويق الإعلامي المتسق والموازي لحالة الترقب والانتظار المجتمعية لمضمونه وفحواه.

لم تكن مهمة التسويق المجتمعي لصدور التقرير مهمة إخبارية وحسب، بل تجاوزت ذلك إلى أدوار توعوية تثقيفية مصحوبة بلقاءات إعلامية لممثلي جهاز الرقابة ذاته، إضافة إلى قراءات مختلفة من خبراء بمجالات مختلفة كلها معنية بقانونية الإجراءات، وأهمية حماية المال العام، كما صحبتها جهود من الترويج الموازي لقراءة مؤشرات التقرير إحصائيا، في أعداد ونسب تعكس دقة العمل، كما تعكس شمولية الأداء بما تضمّنته من مراعاة تخصصية المسارات المؤسساتية لضمان تيسير المتابعة في تحسين الأداء، ولا يمكن إنكار قوة رد الفعل المجتمعية المتمثلة في تصدر «تقرير المجتمع السنوي» حسابات التواصل الاجتماعي لأيام عديدة، بين أفراد مأخوذين بتلخيص المؤشرات الإحصائية لمحتوى التقرير كاملا، وآخرين محتفين بتوافق مضمون التقرير مع شكاوى الناس من جهات بعينها وكأن الرسالة هنا أن «نعم، لمسنا شكواكم ونعدكم بالتغيير دون إمكانية الإنكار أو التسويف»، وفئات تجاوزت كل ذلك لتبحر في تحليل تفاصيل التقرير في ملاحظاته الراصدة لكثير من المخالفات الإدارية المتسببة في تأخير أو تعطل الخدمات في بعض الجهات، ناهيك عن تأثير بعض المخالفات في خلق أزمات مجتمعية حقيقية كأزمة الباحثين عن عمل مقابل تكدس الوافدين في بعض المؤسسات الحكومية أو الخاصة، كل تلك المعلومات الملخصة لجهود عام كامل، وردود الفعل الملخصة حالة الترقب تعكس وعي طرفي المعادلة الذين ما هم إلا عمان؛ شعبا واعيا بأهمية مشاركته الإيجابية وحراكه المخلص، ومؤسسة مدفوعة بثقة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- وهي جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة.

حالة الوعي المأمولة بعد كل هذا التدرّج في تعاطي الجمهور مع جهاز الرقابة تستدعي الإخلاص في الشكوى والتبليغ بعيدا عن الكيدية، وتشويه السمعة، خصوصا مع تطور أساليب استقبال الشكاوى بعد ما يزيد عن عقد من الزمن لينتقل من أساليبه التقليدية إلى أساليب رقمية تراعي فيها خصوصية المبلِّغ وأمانه تقليلا من التدخلات البشرية ما أمكن، بعيدا عن حالات التشهير التي قد توقع المُبَلِّغ في دائرة المساءلة القانونية، كما توقِع أفرادا أو مؤسسات في دوائر التجريح أو الإقصاء المجتمعي، خصوصا إن كانت الشكوى دون أدلةٍ بَيِّنَة تدعم تكوين الدعوى بعد الشبهة، أو حججٍ لا تقبل الدحضَ بعد التداول مع كون الجهة مؤسسة خدماتية مثلا، كما لا ينبغي أن يفهم أن في ذلك حماية للمخالف المتنفّذ، إذ أن القانونَ المُجَرِّمَ فِعلَ التشهيرِ مَُجرّمٌ فعلَ التقصيرِ في الإبلاغ كذلك إنْ ما اطلعتَ أو عرفتَ أو تابعتَ شبهةً للفساد أو استغلال النفوذ، أو سوء استغلال المال العام، حرصا على المصلحة العامة وتأصيلا لمبدأ الأمانة في حماية المال العام أكثر حتى من حماية المال الشخصي.

«لا يشكر الله من لا يشكر الناس» لا بد من شكر مستحق لجهاز الرقابة المالية والإدارية ومنتسبيه، ومع الشكر تقديرٌ لكل جهودهم المبذولة في مختلف القطاعات محل الرقابة؛ بداية من فتح قنوات الإبلاغ وإرسال الشكاوى المختلفة، خاصة الرقمية منها دعما للتحول الرقمي المأمول والمتوافق مع مبدأ الحوكمة، مرورا بالبحث والتقصي والوصول للبينة واليقين حول رصد المخالفات القانونية إداريا وماليا، أو إبداء الملاحظات الهادفة لتحسين الأداء وتطويره، ومع كل الشكر والتقدير لا ينبغي أن ننسى أننا معهم يد واحدة في تلمُّس مواضع التقصير أو الإهمال أو التعدي، ومعهم عين واحدة على كل مخالف أو متخاذل سوّلت له نفسه تفويت حقوق الناس ومصالحهم سعيا لمصلحة شخصية ومنفعة زائلة، وحين نكون معهم مبدأ وسعيا فلا بد من المطالبة بتوسيع رقعة صلاحيات الجهاز لتتجاوز مرحلة الرصد والتبليغ إلى مرحلة شاملة متضمنة طاقات وموارد بشرية تخصصية تؤهل الجهاز لمراحل التنفيذ إجرائيا، والمتابعة عقابيا بحيث يملك منتسبيه الصفة القبضيّة، كما نطالب باتساع صلاحياته تدريجيا ليبلغ لغة أقوى حدة، وخطابا أكثر تحديدا في التعامل مع بيانات رصد المخالفات بعد التثبت والتوثيق، رعاية لأقصى درجات الشفافية وصولا لأعلى درجات التحذير والردع تماشيا مع المرحلة القادمة والرؤيا المستقبلية للحوكمة، وحتى نبلغ ذلك المؤمل فلا بد من تعزيز كل السبل للوصول بأهداف الجهاز إلى أقصاها مع شركاء المرحلة في الادعاء العام والقضاء، الذين ينهضون معا بهذه المهمة الشاقة، وهذه الأمانة العظيمة الجديرة بكل الوقت والجهد والإمكانات، لا بد من تكثيف التثقيف التوعوي حول استشعار الأمانة في حفظ المال العام، وتجنب محفزات سوء استغلاله إهمالا أو تقصيرا أو اختلاسا. ختاما؛ تبقى المرحلة الختامية في تفعيل التقرير السنوي وصولا لأعضاء مجلس الشورى، ممثلي الشعب المفترض بهم النهوض بجهود عام كامل لجهاز الرقابة عبر قراءة واعية لتفاصيله، مفعّلين أدواتهم البرلمانية في متابعة الملاحظات والإحصائيات الواردة، وتوظيفها متابعة حثيثة وملحّة مع مختلف الجهات، وفي مناقشة العديد من القضايا المجتمعية، فلا يكتفى حينها باستلام التقرير وتعطيله في أدراج المجلس، بل تفعيله ببلوغ أقصى منفعة منه أوان تحليله وتوجيهه ومتابعة ملاحظاته تحسينا وتطويرا لمستويات الأداء العام، وهو المؤمل والمرتجى.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية