عن مدى قدرة وسائل الإعلام على الاستمرار - 2

02 أغسطس 2022
02 أغسطس 2022

لقد بات جليا - عبر ما استعرضته هذه المساحة الأسبوع الماضي - مدى حاجة وسائل الإعلام إلى تبني نماذج العمل التجاري من أجل استدامة أعمالها كمؤسسات، خصوصا في ظل النقاشات المتكررة حول قدرتها على الصمود والاستمرارية أمام المد المتشكل من منصات التواصل الاجتماعي.

وبالرجوع إلى التعريف المختصر لنموذج العمل التجاري وهو "الخطة التي تضعها المؤسسة للسعي نحو الربحية المستدامة" فإن الأكيد بأن هذا المفهوم لا يعد جديدا بالنسبة للمؤسسات العاملة في المجال الإعلامي. إلا أن ما يهم التطرق إليه في هذا السياق هو ما إذا كانت نماذج العمل التجاري المتبناة من قبل المؤسسات الإعلامية تضمن قدرة تلك المؤسسات على التكيف والاستمرارية في عالم متسارع التغيير سواء على مستوى القطاع والتقنيات المرتبطة به والمؤثرة فيه، أو فيما يتعلق بالأوضاع المالية والاقتصادية بشكل عام والتي ليست تأثيراتها بمعزل عن هذا القطاع.

لقد ألقت المتغيرات التي شهدها العقد الفائت بظلالها على قطاع المؤسسات الإعلامية محليا، ويمكن القول إن هنالك عنصرين أساسيين كانا أبرز ما أثر على طريقة عمل تلك المؤسسات ومدى قدرتها على الصمود والاستدامة؛ أولهما مدى تأثر الحكومة بالتقلبات المالية والاقتصادية عالميا، والسياسات والإجراءات التي اتبعتها الحكومة من أجل التخفيف من مستوى تأثرها بتلك التقلبات. أما العنصر الثاني فهو ما أتاحته منصات التواصل الاجتماعي وشركات التقنية الكبرى من بدائل للمساحات الإعلانية أسهمت بشكل واضح في تفضيلات المؤسسات المعلنة وكذلك الخيارات التي تتيحها وكالات تخطيط وشراء الوسائط الإعلانية.

ونتيجة لذينك العنصرين فقد قلصت العديد من المؤسسات الحكومية من اشتراكاتها السنوية في الصحف والمجلات - والذي كان يعد أحد أهم خطوط الإيرادات للمؤسسات الإعلامية محليا - إضافة إلى قيامها بخفض الإنفاق على الإعلانات والملاحق الصحفية بشكل كبير - وهي التي كانت تعد من أكبر المعلنين في وسائل الإعلام قبل ذلك - مما أدى إلى تأثيرات مالية سريعة على المؤسسات الإعلامية. كما نتج أيضا توجه العديد من المؤسسات المعلنة عموما إلى تفضيل الإعلان عبر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع والتطبيقات الإلكترونية كبديل مُجدٍ مقارنة مع الخيارات التقليدية من حيث الكلفة، والقدرة على الاستهداف والتحكم، وقياس الانتشار والتأثير والتتبع، والتكامل مع المنصات الإلكترونية الأخرى، مما أثر على حصة المؤسسات الإعلامية من إجمالي الإنفاق الإعلاني محليا.

إذن فإن خلاصة الحديث عن تلك التأثيرات هي أن نموذج العمل التجاري الذي قد تفضل بعض المؤسسات الإعلامية تبنيه - والمتمثل في الاعتماد على عائدات الاشتراكات السنوية والإنفاق الإعلاني كخطي إيرادات أساسيين - قد لا يضمن استدامة ربحية تلك المؤسسات. لذا، وبناء على ما لم يعد خافيا على أحد من نتائج التأثيرات السابق ذكرها على بعض المؤسسات الإعلامية محليا من تقليص العمليات والإنفاق وأعداد الموظفين أو احتمالية مواجهة شبح الإغلاق، فإنه بات حريا بالنسبة لتلك المؤسسات والجهات المعنية بهذا القطاع مراجعة نماذج العمل التجاري في المؤسسات الإعلامية والسعي لتطويرها بما يواكب تطورات هذا القطاع ويضمن قدرتها على التكيف مع مختلف المتغيرات عبر تنويع خطوط إيراداتها وترسيخ قيم الابتكار والتطوير.

إن هذا الطرح يتعدى كونه وجهة نظر شخصية أو مقترحا ارتجاليا، فقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) تقريرا عالميا في مايو الماضي حول توجهات حرية التعبير وتطور الإعلام خلال الأعوام الستة من 2016 إلى 2021، أكدت فيه أن وجود منصات التواصل الاجتماعي يشكل خطرا وجوديا على الممارسات الصحفية المهنية، مبينا - التقرير - بأن نسبة كبيرة جدا من كل من الجماهير وعائدات الإنفاق الإعلاني قد انتقلت إلى المنصات الرقمية، وأن كلا من شركتي ميتا - المالكة لمنصات فيس بوك وإنستجرام وواتس آب - وجوجل تستحوذان على ما يقارب نصف الإنفاق الإعلاني الرقمي عالميا. وقد ذيلت اليونسكو تقريرها بتوصيات ملحة تجاه الحكومات منها التوصية المرتبطة بسياق الموضوع والتي تنص على أهمية قيام الحكومات بدعم استدامة الجدوى الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية الخاصة مع الحفاظ على استقلاليتها في أداء مهامها الصحفية، وذلك عن طريق أدوات مالية مثل الحوافز أو الإعفاءات.

عالميا فإنه يمكن القول أن هنالك على الأقل خمسة أنواع معروفة من نماذج العمل التجاري تتبعها المؤسسات الإعلامية في سبيل ضمان استدامة ربحيتها في ظل التطورات التقنية المرتبطة بالقطاع، ستستعرض هذه المساحة نموذجين منها لتستكمل البقية مع نقاش أكثر في مساحة الأسبوع القادم. يعد من أبسط تلك النماذج الدفع نظير شراء نسخ فردية من المحتوى الإعلامي، وهو مفهوم قديم تزامن مع تطور مختلف وسائل الإعلام من الصحف والمجلات والأسطوانات والأشرطة السمعية والمرئية وانتهاء بالصيغ الرقمية للمحتوى الإعلامي. وإضافة إلى مبيعات المحتوى الإعلامي الترفيهي مثل المسلسلات والأفلام والموسيقى والألعاب، تقوم بعض المؤسسات الإعلامية حول العالم بفرض سعر مقابل استهلاك المحتوى الصحفي القيّم باختلاف صيغه - مرئيا كان أم مسموعا أم مقروءا - والذي عادة ما يكون في المتناول باعتبار مدى انتشار وشعبية الوسيلة الإعلامية، وهو عنصر مهم سيتم التطرق إليه في جزء لاحق. كما تطور هذا النموذج مؤخرا إلى ما يعرف بـ "الدفع مقابل الاستخدام Pay-As-You-Go" بحيث يقوم الشخص بالدفع مقابل كل محتوى إعلامي يستهلكه، ونشأت على أساس هذه الممارسة منصات عالمية تتيح للجمهور إمكانية الاطلاع على محتوى العديد من وسائل الإعلام باشتراك واحد مثل منصة Blendle الألمانية.

أما النوع الثاني فهو من أكثر الأنواع شيوعا وهو الدفع مقابل الاشتراك؛ بحيث تضع الوسيلة الإعلامية عبر منصاتها الرقمية خيارات مختلفة لباقات الاشتراك من أجل الاطلاع على المحتوى الذي تقدمه الوسيلة الإعلامية مقابل مبلغ معين يدفع بشكل دوري. ولا تخلو هذه الممارسة من تطبيقات علوم السلوك في هندسة خيارات الباقات، والسعي لجذب المشترك عبر التجريب المجاني Free Trial، والعروض منخفضة التكلفة مؤقتا، وتجميع البيانات الشخصية، والتحالف مع شركات الاتصالات لتسهيل معاملات الاشتراك والدفع.

بدر بن عبدالله الهنائي عضو مجلس Forbes لخبراء التواصل