عن مدى قدرة وسائل الإعلام على الاستمرار

26 يوليو 2022
26 يوليو 2022

قد لا يستغرق طويلا من الوقت التفكير قبل الوصول إلى القناعة التي تفيد بأن وجود وسائل الإعلام الخاصة - كمؤسسات - على المستوى العالمي محصور إما في السعي إلى تحقيق الإيرادات المالية اللازمة لاستدامة أعمالها مع تحقيق مقدار كاف من الربح يضمن رغبة مالكيها في بقائها، أو في أنها تؤدي دورا حسب وجهة نظر مموليها - من غير الساعين للربح - في اتباع نهج إعلامي معين يتوافق مع تطلعاتهم أو ما يتصورونه أولوية في استعراض القضايا والموضوعات والأخبار على الجمهور، أو فلنقل بأعلى درجات الاختصار وأقل درجات الدبلوماسية: تبني أجندة مُمَوِّليها إعلاميا بغض النظر عن نبلها من عدمه.

في كلتا الحالتين إذن فإن العمل المؤسسي لوسائل الإعلام يتطلب وجود حد معين من التمويل من أجل تغطية نفقاتها الرأسمالية والتشغيلية. وبقدر ما يبدو الادعاء السابق من المُسلَّمات، إلا أن التفكر في الأطروحات التي تطفو بين فترة وأخرى حول مدى قدرة وسائل الإعلام "التقليدية" - كما يسميها بعض المهتمين - في الصمود أمام الانتشار المتسارع لتقنيات التواصل الحديثة، والشبكات الاجتماعية، ووسائل الإعلام الفردية، والبيانات الكبرى، والمحتوى المجاني، وغيرها. ومع كثرة تلك العوامل وتفاوت أمداء تأثيرها على وسائل الإعلام، إلا أن الصحيح والمثبت تاريخيا أنه لم يحدث أن قامت أي وسيلة إعلامية بإلغاء سابقتها منذ اختراع الطباعة على يد جوهان جوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر، وحتى الانفجار المعلوماتي في مطلع القرن الحادي والعشرين.

إن أصح ما يمكن قوله بخصوص التطور الذي شهده تاريخ التواصل حتى يومنا هذا شيئان أساسيان؛ أولهما أن وسائل الإعلام لا تلغي بعضها بقدر ما أنها تكمل بعضها بحيث تؤدي كل وسيلة دورا معينا، وثانيهما أن وسائل الإعلام باختلافها تستفيد من التطور التقني لتحافظ على استمراريتها وارتباطها بالأطراف المكونة لقطاعها - من مستثمرين ومشتغلين ومهتمين وجمهور - وهو ما يعزز كذلك عنصر الاستمرارية المذكور أعلاه. فبالرغم من أن طابعة جوتنبرغ وأجيالها اللاحقة باتت حبيسة المتاحف ومنازل المهتمين بجمع القطع الأثرية؛ إلا أن التواصل الكتابي لا يزال موجودا في عصر لوحات المفاتيح الرقمية، وبالرغم من اختفاء اللاقطات الهوائية من أسطح المنازل، إلا أن أطباق استقبال الفضائي وبعدها منصات البث الرقمي لا زالت تحتضن محتوى التلفاز بكل أريحية، كما استفادت محطات الراديو من تطور تقنيات البث من تلك المعتمدة على الموجة معدلة السعة AM إلى التقنيات المعتمدة على الموجة معدلة التردد FM وانتهاء بالبث عبر الإنترنت.

وبعيدا عن جدلية مدى حتمية قضاء وسائل التواصل الحديثة على وسائل الإعلام الأخرى، وبالعودة إلى المفاهيم المرتبطة باستدامة العمل المؤسسي لوسائل الإعلام، فإن من المبادئ التي ينبغي على تلك المؤسسات البناء عليها هو "نموذج العمل التجاري" Business Model الذي قد يتساءل المهتم من خارج المنظومة حول مدى وجوده ضمن أولويات تلك المؤسسات مع تكرار الحديث عن ما لم يعد بخاف على أحد من اتجاه بعض وسائل الإعلام الخاصة إلى خفض نفقاتها عبر تقليص عملياتها أو تقليل أعداد موظفيها أو حتى مواجهة شبح الإغلاق. وينبغي في سياق هذا الحديث التنويه بجهود بعض المؤسسات التي سعت إلى تنويع خطوط إيراداتها المالية بطريقة تثبت فاعلية مواجهة المتغيرات المتسارعة - تقنيا وإعلاميا - بمستويات مكافئة من الصمود المؤسسي Resilience من شأنها التخفيف من وطأة التأثيرات السلبية لتلك المتغيرات على المؤسسة ذاتها.

تاريخيا - وعند الحديث عن قطاع الصحف على وجه الخصوص محليا - فإنه ليس بِسِرٍّ القول بأن اعتماد المؤسسات الصحفية الخاصة حتى وقت قريب كان يرتكز على المساحات الإعلانية المباعة ورسوم الاشتراكات السنوية. إلا أن تذبذب الأوضاع المالية والاقتصادية مؤخرا أثبت أن خطي الإيرادات هذين قد لا يكونان بالضرورة الأكثر استدامة، أو فلنقل بمعنى أدق أن الاعتماد على خطين للإيرادات فقط قد لا يكون ممارسة تجارية مستدامة حسب ما تنص عليه أساسيات الأعمال، أو ما يكرسه مفهوم نماذج العمل التجاري المذكور أعلاه. وللتوسع أكثر في هذا الجانب فإن من المهم التطرق إلى تعريف نموذج العمل التجاري من أجل ربطه لاحقا بسياق الحديث عن استدامة العمل المؤسسي لوسائل الإعلام.

يعتبر نموذج العمل التجاري بمثابة خطة المؤسسة التي تسعى من خلالها إلى الربحية المستدامة، وهي تشمل تحديد المنتجات أو الخدمات التي تسعى المؤسسة إلى تقديمها، وتشريح السوق المستهدف بتلك المنتجات أو الخدمات، وحصر التكاليف التي تنتج عن عمليات المؤسسة. ويتكون نموذج العمل التجاري للمؤسسة من عنصرين أساسيين هما الكلفة والتسعير؛ فمتى ما كانت الأسعار المرتبطة بالمنتجات أو الخدمات والمقدمة إلى شرائح السوق المستهدفة أعلى من التكاليف، تكون المؤسسة قد حققت الربحية المنشودة. وقد طرح العديد من مفكري مجال الأعمال نسخهم الخاصة من تعريف نموذج العمل التجاري، حيث وصفه مؤسس علم الإدارة الحديث بيتر دراكر بأنه "الفرضيات التي يمكن أن تتبعها المؤسسة في سعيها لجني المال" ويعني بالفرضيات تلك المتعلقة بالأسواق، والزبائن والمنافسين وقيمهم وسلوكهم، والتقنيات ومتغيراتها، ونقاط القوة والضعف لدى المؤسسة ذاتها. أما مايكل لويس - مؤلف كتاب العجز الكبير The Big Short الذي يلخص أحداث الأزمة المالية العالمية في 2008 - فيختصر تعريف نموذج العمل التجاري على أنه "كل ما من شأن المؤسسة تخطيطه لجني المال".

إن مفهوم نموذج العمل التجاري ليس بغريب على نشاط اقتصادي حيوي مثل قطاع التواصل والإعلام، وقد يكون ذلك المفهوم أحد العناصر الرئيسة في صمود مؤسسات إعلامية حول العالم - وإغلاق بعضها - وهو ما يمكن أن ينطبق محليا على المؤسسات الإعلامية في سلطنة عمان. غير أن المساحة المحدودة لمناقشة هذا الموضوع تعني ضرورة أن تكون مساحة الأسبوع القادم تكملة لما تم طرحه هنا هذا الأسبوع.