عن تجربة التواصل أو التواصل عن تجربة

13 سبتمبر 2022
13 سبتمبر 2022

بالرغم من أن التواصل - علما ومجالا - قد يكون من أكثر ما يمكن الحديث عنه أو حتى الإفتاء فيه دون وجود المرجعية العلمية أو المصداقية المهنية، إلا أن هذه المساحة قد حاولت في معظم أسابيعها السبعين إيجاد قاعدة متكاملة لتأصيل هذا العلم على الأقل في السياق المحلي. وبينما كانت تلك المحاولات ملأى بالكثير من التشخيص والتحليل مع طرح بعض النصائح حول ما يتوجب فعله حيال العديد من الممارسات المرتبطة بالتواصل - ولو من باب إبراء الذمة على الأقل - إلا أنه قد تكون هنالك تساؤلات كثيرة تدور في أذهان المهتمين بالتواصل حول سبل تفعيل مفاهيمه وأساليبه وممارساته من أجل تحقيق الأثر الأعظم على الناس. وإذا حاولنا اختصار تلك التساؤلات في سؤال واحد وواضح، فإنه قد يبدو على هذه الصياغة: كيف يمكن تسخير التواصل لتشكيل الرأي العام؟

إن من اليقين أنه لا توجد إجابة واحدة لهذا السؤال، وربما تتعدد الإجابات بتعدد التجارب؛ فالكل يحاول - أو فلنقل يدعي المحاولة بغض النظر عما إذا كانت محاولات فاعلة أم لا - من أجل إيجاد الأثر الحقيقي على الجمهور المستهدف من عملية التواصل. إذن لا بأس ربما من محاولة طرح إجابة إضافية لذلك السؤال، بما يختزل تجارب متنوعة من مواقع مختلفة بمستويات متفاوتة من المسؤولية ومزيج من النتائج المرجوة وغير المرجوة التي قد تضطرنا إلى التعلم بالطريقة الأصعب.

عموما فإن الإجابة لن تتعدى: سبعة عوامل، وخلاصة واحدة، تسهم مجتمعة في ضمان مستوى أعلى من احتمالية نجاح عملية التواصل وصولا إلى تحقيق التأثير على الجمهور المستهدف. أول تلك العوامل وأهمها: التكرار. فقد يتصور لمسؤولي المؤسسات أو فرق التواصل والإعلام أن الرسالة تصل إلى الجمهور المستهدف عند تمام عملية التواصل والمتلخصة في خروج الرسالة من المرسِل، ومرورها عبر الوسط الناقل، ووصولها إلى المرسَلَة إليه. غير أن ذلك المفهوم قد يكون صحيحا إذا تم تطبيقه في بيئة مختبرية خالية من أي تشويش أو عوائق قد تؤثر في إمكانية وصول الرسالة إلى المتلقي أو على الأقل أنها تصل بشكل مشوه. إن التكرار من شأنه تحقيق عدة فوائد أهمها زيادة احتمالية وصول الرسالة في ظل ازدحام الرسائل التي يتعرض لها المتلقي نتيجة تطور وسائل التواصل واندماجها في حياة البشر، إضافة إلى ما ينتج عن التكرار من سهولة استذكار (أو استرجاع Recall) الرسالة من قبل المتلقي بحكم أنه يكون قد تعرض للرسالة في ظروف وأوقات وأمكنة وحالات ذهنية مختلفة.

أما العامل الثاني فهو تضخيم الصوت Amplification، وهو يعني ببساطة أن تقوم المؤسسة أو القائمين على أنشطة التواصل والإعلام بتسخير الجهود والموارد من أجل ضمان وصول الرسالة إلى الجمهور بوسائل غير تلك التي تمتلكها المؤسسة. ولتسهيل فهم ذلك، وبالنظر إلى الوسائل المتاحة أمام المؤسسة لإيصال رسائلها بالنموذج التقليدي: المملوكة Owned / المكتسبة Earned / المدفوعة Paid، فإن عامل تضخيم الصوت مرتبط بالنوع الثالث من تلك الوسائل؛ بمعنى أن تدفع المؤسسة لترويج المحتوى الحامل للرسالة لضمان وصوله. فيما يركز العامل الثالث على الاستهداف Targeting وذلك عبر ضمان تحديد الجمهور المستهدف من الرسالة كشريحة أو كمجموعة من الشرائح من أجل تسهيل استهدافه بالمحتوى المناسب.

رابعا تبرز أهمية عامل التوقيت. حيث قد يقود روتين العمل فرق التواصل والإعلام إلى معاملة جانب بث الرسائل كأي مهام أخرى تتم وقت انتهاء العمل منها. إلا أن أهمية عامل التوقيت تكمن في أن الرسالة عادة ما تخاطب حالة ذهنية للفرد، أو مزاجا عاما للمجتمع بما قد يؤثر على مدى استيعابها أو تقبلها، كما أن التوقيت مرتبط ارتباطا وثيقا بوجود السياق الذي يؤثر هو الآخر على مدى ملاءمة بث رسالة ما في وقت ما. وقد تُحسِن المؤسسة مراعاة تلك العوامل، لكن ضعف قدرتها في صياغة المحتوى باللغة المناسبة قد يفقده الكثير من المصداقية؛ ويمكن أن يشمل عامل اللغة - وهو العامل الخامس - المصطلحات المستخدمة، وتسلسل الأفكار، وسلاسة الصياغة، وتجنب الأخطاء اللغوية والإملائية. وليس أصدق في بيان أهمية هذا العامل من الحديث الشريف للنبي الكريم - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - حين قال: «ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض».

إن من أهم الاعتبارات التي ينبغي مراعاتها في عملية التواصل هي أن لا تخرج المعلومات بصيغة صرفة أو جافة، بل ينبغي إيجاد الأوعية التي تسهل استيعابها من قبل المتلقي، أو ما يمكن أن نطلق عليه: «الاستمالات». إن الغرض الذي يسهم عامل الاستمالات في تحقيقه هو تسهيل ارتباط المتلقي بالرسالة المنقولة ومن ثم تبنِّيه لها؛ بحيث يمكن وضع الرسالة في قوالب عاطفية مثل الحس الوطني أو مخاطبة الجوانب الأسرية أو الاجتماعية أو تعزيز بعض المشاعر مثل الحزن أو الامتعاض أو السرور أو الخوف، أو قوالب منطقية مثل الارتباط بجوانب دينية أو تخاطب العقل اللاواعي باستخدام بعض تطبيقات علوم السلوك. ويمكن أن يوازي هذا العامل في الأهمية توأمه الآخر المتمثل في «مجموعة الأدوات» - وهي العامل السابع - التي تستخدمها المؤسسة في إيصال الرسالة إلى شرائح الجمهور المستهدف. وفي كثير من الأحيان قد يضيق أفق الفرق القائمة على التواصل والإعلام فلا ترى أمامها غير مجموعة بسيطة من الأدوات البسيطة التي قد لا يعدو تأثيرها مجرد الصراخ بالرسالة في غرف الصدى، دون وصول الرسالة إلى الجمهور المستهدف. لذا فإن على تلك الفرق حصر كافة الأدوات التي تتناسب مع خصائص الجمهور المستهدف من أجل ضمان فاعلية التواصل.

ومع تمام العوامل السبعة التي يمكن أن تسهم في إحداث التأثير، يمكن وضع الخلاصة التي تتمثل في مبدأ: لا شيء يكفي. فبالرغم من التصور الذي قد يتشكل لدى المؤسسة أو فرق التواصل والإعلام فيها بأنها قد فعلت الكثير من أجل إيصال الرسالة إلى الجمهور المستهدف، إلا أن هنالك الكثير والكثير والكثير مما ينبغي عليها فعله من أجل الوصول إلى تلك النتيجة، ومن ثم الشعور بتحقيق الإنجاز عندما تتحول الصورة التي رسمتها المخيلة يوما ما إلى واقع يعيشه الكثيرون ممن يرون في أنفسهم أناسا من حولنا وكنا ولا زلنا وسنظل ننظر إليهم كجمهور مستهدف.