عن التواصل والنسخ المتعددة للحقيقة

06 سبتمبر 2022
06 سبتمبر 2022

قد يميل البعض إلى الاعتقاد بأن أحد أبسط الأغراض الأساسية من عملية التواصل هو نقل الحقيقة. وربما كان هذا الاعتقاد مدعوما بالآلية التي كانت تمر من خلالها عملية التواصل في فترات زمنية سابقة؛ والتي كان أبرز ملامحها وجود عدد قليل جدا من المرسلين يقابله عدد كبير جدا من المستقبلين. إلا أن الوضع الذي باتت عليه عملية التواصل في الوقت الحالي - الذي يوجد فيه عدد كبير جدا من المرسلين يوازي العدد الكبير جدا من المستقبلين - جدير بأن يدفعنا إلى التفكر في طبيعة دور عملية التواصل في نقل الحقيقة. وبناء على فكرة وجود الكم الهائل من المرسلين والمستقبلين قد يكون التساؤل مشروعا حول ما هي الحقيقة الأصدق بين كل أنواع المعلومات والحقائق التي يتم تداولها بين أولئك المرسلين والمستقبلين؟

إن إلقاء نظرة سريعة على الواقع يمكن أن ينتج عنه ظهور أول عقبة في سبيل الإجابة عن ذلك التساؤل، حيث يمكننا القول بشكل عام إن هنالك كما كبيرا من الشائعات وحملات التضليل والأخبار الكاذبة والمضللة والمعلومات المفبركة والمحتوى المزيف الذي قد لا يمثل حقيقة بحد ذاته. ولأن كل تلك التطبيقات السلبية لعملية التواصل تتشارك في كونها تحمل معلومات غير صحيحة أو غير واقعية، فهي بطبيعة الحال تتعارض مع أبسط تعريفات الحقيقة التي تقول بأنها «الشيء الثابت الصحيح» أو أنها «أي شيء يتطابق مع الواقع».

ولكن من أجل تحقيق الغرض من هذا الطرح والإجابة على التساؤل حول الحقيقة الأصدق بين مختلف الحقائق التي تتداول في عملية التواصل، يمكننا افتراض طرح التساؤل بافتراض انعدام التطبيقات السلبية لعملية التواصل المذكورة أعلاه والتي لا تتطابق مع الواقع، أو باختصار افتراض أن هذا التساؤل مطروح في «المدينة الفاضلة». إن أفضل مدخل هذا الطرح استحضار قصة «العميان والفيل»؛ وهي قصة شعبية قديمة من الهند شاعت لاحقا في العديد من دول العالم. تقول القصة بأنه كان هنالك ستة رجال عميان وجدوا فيلا فأرادوا معرفة هذا الشيء الذي أمامهم مع عدم مقدرتهم على رؤيته. قام الرجل الأول بتلمس الجانب العريض الصلب من جسم الفيل فصاح قائلا: هذا جدار! أما الرجل الثاني وبعد تلمسه الطرف المدبب من ناب الفيل قال: إنه رمح. بينما اعتقد الرجل الثالث بعد أن لمس خرطوم الفيل أن أمامه أفعى، وقال الرابع بعد أن تفحص ركبة الفيل بيديه أن ذلك جذع شجرة، وتوقع الخامس بعد لمس أذن الفيل أنها مروحة، فيما قال الرجل السادس وهو ممسك ذيل الفيل بأنه حبل.

لقد أنتجت التجربة الشخصية لكل من الرجال الستة نسخة مختلفة من الحقيقة، وهي مختلفة تماما أيضا عن النسخة الأصلية لها التي قد تنتج لو حاول أي منهم تحسس جسم الفيل كاملا بكل أجزائه، أو عند رؤية الصورة الكاملة بالنسبة لشخص سليم النظر. إلا أنه في المقابل سيكون من الصعوبة البالغة إقناع أي من الرجال الستة بأن الذي أمامه ليس جدارا ولا رمحا ولا أفعى ولا جذع شجرة ولا مروحة ولا حبلا، كما سيكون صعبا جدا أن يصدق بأن الذي أمامه فيل.

إن إسقاط العبرة من تلك القصة الشعبية على واقع التواصل اليوم يمكن أن يفسر للمشتغلين في قطاع التواصل والإعلام وكذلك مسؤولي المؤسسات التصورات التي يشكلها الجمهور تجاه ما يتعلق بمؤسساتهم أو طبيعة عملها، ويقوم لاحقا بتداولها وتكريسها بشكل مستمر حتى تتخذ شكل الحقيقة المطلقة بالرغم من أنها قد لا تعبر بالضرورة عن الواقع. وباختصار يمكن القول بأن الناس يشكلون نسخهم الخاصة بهم من الحقيقة نتيجة تجاربهم الشخصية - والتي يتوجب على المؤسسة ضمان أن تكون تلك التجارب مثالية ومعبرة عن الواقع - وكذلك نتيجة الفراغ المعلوماتي الذي ينتج عن وجود معلومات شحيحة حول الموضوعات والقضايا والمؤسسات.

يميل الجمهور في ظل وجود الفراغ المعلوماتي - والذي يسببه الكم القليل وغير المتكامل من المعلومات - إلى محاولة ملء ذلك الفراغ بتصوراته الخاصة. ويعزى ذلك التصرف إلى حقيقة أن الدماغ البشري لا يستطيع استيعاب الموضوع بشكل كامل في ظل وجود نقص في المعلومات المتوفرة، وهذا يحدو به تلقائيا إلى نسج نسخة خاصة به من الموضوع لصياغة قصة متكاملة من أجل الاستيعاب، حيث يملأ الفراغ المعلوماتي بتصورات موجودة مسبقا في الدماغ ناتجة عن مواقف سابقة أو مشاعر معينة أو روايات أطراف أخرى.

ولا تتوقف الخطورة التي يشكلها الفراغ المعرفي عند وجود نسخ متعددة من الحقائق بتعدد الأشخاص، وإنما - وفي ظل شبكية التواصل في وقتنا الحالي - قد يميل الناس إلى إعادة نشر تلك النسخ الخاصة من الحقائق التي لا تعبر بالضرورة في معظم الأحيان عن الواقع، وبذلك يصبح التصور السائد هو الواقع المطلق. إضافة إلى ذلك قد تزيد الخطورة المحتملة الناتجة عن إعادة نشر تلك النسخ إذا ما تعرضت لتأثير ما يعرف بـ «الهمسة الصينية Chinese Whisper» وهو التأثير الذي يقوم بتشويه الرسالة الأصلية أثناء تناقلها من شخص لآخر.

إذن فإن ما ينبغي على المؤسسات فعله ضمان تقليص الفراغات المعلوماتية التي تحيط بها وبمجالات عملها إلى أدنى قدر ممكن، والسعي قبل ذلك إلى تشخيص تلك الفراغات بشكل مستمر ضمن عمليات الرصد الإعلامي التي تقوم بها فرق التواصل والإعلام التابعة لها، إضافة إلى تعزيز حضورها في مختلف وسائل التواصل والإعلام التي تتناسب مع طبيعة عملها من أجل ضمان إيجاد سبل وقنوات مختلفة لإيصال رسائلها إلى شرائح مختلفة من الجمهور وبالتالي التقليل من المخاطر المحتملة التي قد تنتج بسبب تعدد النسخ المتداولة من الحقيقة.