عُمان ومتطلبات "الخمسينية الثانية"
أ.د. حسني محمد نصر
تحتفل سلطنة عمان بعد غد بالعيد الوطني الحادي والخمسين الذي يوافق دخول نهضتها المباركة العام الثاني من الخمسينية الثانية التي يمكن أن نطلق عليها "خمسينية الاستمرار والاستقرار"، وتحقيق المزيد من المنجزات التي ستكون شاهدا للأجيال القادمة على نجاح التجربة التنموية الذاتية المتواصلة التي اعتمدت على فكر وسواعد أبنائها، ولم تقع فيما وقعت فيه تجارب أخرى من أخطاء نتيجة استيراد نماذج تنموية جاهزة لا تصلح لمجتمعاتها.
وفي ظل عالم متغير يشهد تطورات متلاحقة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاتصالية، يصبح من المهم في هذا التوقيت العالمي الحرج، الذي تحيط فيه الأخطار والأطماع بكل دول العالم تقريبا، مراجعة وتقويم جهود التنمية السابقة لتعزيز ما تم تحقيقه بالفعل، ووضع خريطة طريق للفعل التنموي العُماني القادم- إن صح التعبير- في الخمسينية الجديدة.
المتابع لمسيرة النهضة العُمانية الحديثة يستطيع أن يدرك أن الإنسان كان هو محور التنمية في الخمسين سنة الأولى. وقد بدأ الاهتمام بالإنسان منذ اللحظات الأولى لتولي المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد ـ رحمه الله ـ مقاليد الحكم، عندما شدد على أهمية التعليم وأولاه اهتماما كبيرا. فانتشرت المدارس في جميع ربوع السلطنة، وتضاعف عددها عدة مرات كما تضاعف أعداد الطلاب والمعلمين. ومقارنة سريعة بين أرقام بداية النهضة والأرقام الحالية توضح حجم الإنجاز التعليمي الهائل الذي تحقق على الأرض.
وفي الخمسينية الجديدة فإن تطوير التعليم بمراحله المختلفة، وتقديم خدمات تعليمية ذات جودة عالية يأتي على رأس أولويات حكومة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ـ، كما يمثل حجر الزاوية في رؤية عمان 2040 التي يشرف جلالته بنفسه على تحقيقها. ويكفي هنا أن نشير إلى "تقدم السلطنة (8) مراتب في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2021؛ لتصبح في المرتبة 76 عالميا، والمرتبة 19 في مخرجات الابتكار، وذلك حسبما كشفه تقرير المنظمة العالمية للملكية الفكرية، الذي أشار إلى تحقيق مراتب متقدمة عالميا في عدد من المؤشرات الفرعية منها: الأول عالميا في مؤشر نسبة خريجي العلوم والهندسة من إجمالي الخريجين، والعاشر عالميا في مؤشر التعليم العالي، والمرتبة 13 عالميا في مؤشر الإنفاق الحكومي على طلبة التعليم المدرسي.
هذه المؤشرات العالمية وغيرها تؤكد أن التعليم الذي اهتم به مؤسس عمان الحديثة المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد، وكان يحلم بنشره في كل شبر في عمان، يسير في الاتجاه الصحيح سواء على صعيد المؤسسات التعليمية أو الكوادر البشرية العُمانية التي تدير حاليا المنظومة التعليمية من الألف إلى الياء. ووفقا لبعض الإحصاءات فإن "عدد المدارس في السلطنة تضاعف بأكثر من 322 ضعفاً، فيما تضاعف عدد الطلاب أكثر من 510 أضعاف ".
ووفقا لموقع البوابة التعليمية التابع لوزارة التربية والتعليم فإن عدد المدارس كان في بداية النهضة ثلاث مدارس فقط تضم 900 طالب فقط، ارتفع في العام 2007 نحو 1053 مدرسة، وكان عدد الطلبة 564 ألف طالب وطالبة، وعدد المعلمين نحو 40 ألفا، والإداريين نحو خمسة الآف. وحاليا يشير الكتاب السنوي للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن عدد المدارس في السلطنة شهد ارتفاعًا بلغ 6.1 % خلال العام الدراسي 2019/2020، وبلغ 2046 مدرسة تضم 31,812 فصلًا. وارتفع عدد الطلاب بنسبة 4.8 % ، وبلغ 843,598 طالبًا وطالبة، أما عدد المعلمين فقد بلغ 71,469 معلمًا.
وإذا كانت السلطنة قد حققت مرتبة متأخرة نوعا ما في مؤشر جودة التعليم العالمي للعام 2021 الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، وهي المرتبة العاشرة عربيا، و107 عالميا، فإنه يكفي أنها تفوقت على دول عربية كثيرة كانت إلى وقت قريب تحتل مركز الريادة في التعليم، مثل مصر التي جاءت في المرتبة الأخيرة عربيا، والتاسعة والثلاثين بعد المائة عالميا، فيما خرجت ست دول عربية من التصنيف بشكل كامل بسبب افتقارها لمعايير الجودة في التعليم، رغم أن نظمها التعليمية سبقت النظام التعليمي الحديث في عمان بعشرات السنوات، مثل ليبيا والسودان والصومال والعراق وسوريا، واليمن. ولعل ما يؤكد سلامة البناء التعليمي للسلطنة في الخمسينية الأولى من النهضة أنها احتلت المركز الثامن عربيا و88 عالميا في مؤشر جودة التعليم الابتدائي الذي يمثل حجر الزاوية في النظام التعليمي، والأساس الذي تبني عليه مراحل التعليم التالية.
وعلى مستوى التعليم الجامعي فقد شهدت خريطة الجامعات والكليات نموا كبيرا سواء على مستوى افتتاح جامعات حكومية وخاصة جديدة، أو على مستوى التخصصات الدقيقة داخل تلك الجامعات والكليات. وقد تكللت جهود الجامعة الأولى في السلطنة وهي جامعة السلطان قابوس، وحققت هذا العام تحسنا ملفتا في ترتيبها ضمن التصنيفات العالمية للجامعات، ومنها مؤشر "كيو إس" الذي حققت فيه الجامعة الترتيب رقم 368 لعام 2022 متقدمةً على ترتيبها السابق والذي كان 375 لعام 2021.
إن التركيز على التعليم واستمرار دعمه في الخمسينية الجديدة للنهضة العمانية يبدو الخيار الأمثل للدولة والمجتمع. ويكفي هنا أن نشير إلى تأكيد صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم-حفظه الله ورعاه- في خطابه السامي في الثالث والعشرين من فبراير 2020 على مركزية الاهتمام بالتعليم، وجعْــلِه في سلم الأولويات الوطنية خلال المرحلة القادمة؛ وقوله- أعزه الله- "إن الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته، وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية، وسنمده بكافة أسباب التمكين باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المقبلة". ورغم أهمية مجالات العمل الوطني الأخرى الاقتصادية والاستثمارية والسياحية والصحية، فإن التعليم- في تقديري- يبقى القطاع الأولى بالرعاية من جانب الجميع، والذي يجب تقديمه على القطاعات الأخرى، لأنه يمثل القاطرة التي تقود تلك القطاعات، والتي يتوقف نجاحها على نجاحه. إذ أنه بدون تعليم جيد لن يكون لدينا أطباء أو مهندسون أو إداريون قادرين على القيام بأعباء التنمية القادمة والوفاء بمتطلباتها.
إن تجارب الدول المتقدمة تؤكد أن التعليم أساس التنمية، وهو نفس الشعار الذي يرفعه مجلس التعليم في عُمان الذي تأسس في العام 2012 ليجمع كل أصحاب المصلحة في العملية التعليمية، ويحمل على عاتقه مهمة وضع الاستراتيجية الوطنية للتعليم في سلطنة عمان وفق رؤية 2040.
وهناك آمال كبيرة معقودة على هذا المجلس المهم لإنجاز كل الملفات المفتوحة لديه مثل إعادة هيكلة منظومة التعليم بما يتوافق والمتغيرات العالمية والإقليمية والوطنية، ووضع وتحديث القوانين المتصلة بالتعليم المدرسي والتعليم الجامعي، ومتابعة تنفيذ النظام الوطني لإدارة جودة التعليم العالي. إذا أضفنا إلى ذلك حرص حكومة صاحب الجلالة على توفير كل صور الدعم المادي للعملية التعليمية، وتزايد إيمان المجتمع كله بأهمية التعليم وأولوية توجيه كل الدعم له، فإننا نستطيع أن نقول إن الخمسينية الثانية من النهضة العُمانية المباركة سوف تشهد تطورا كبيرا في منظومة التعليم في سلطنة عمان ربما نرى أثره خلال السنوات القليلة القادمة التي سيكون فيها خريجو المدارس والجامعات العُمانية قادرين على منافسة أقرانهم من الجامعات العالمية في أسواق العمل الدولية، والوصول بعُمان إلى آفاق جديدة ومبشرة بإذن الله.
