عُمان في مؤشر الابتكار العالمي 2023

30 سبتمبر 2023
30 سبتمبر 2023

تزداد أهمية الابتكار بتسارع التغيير والتطوُّر التقني، وما يشهده العالم من تيارات معاكسة تحتاج إلى تنمية أنماط الابتكار وتطويرها وفقا لما تحتاجه المجتمعات والأسواق؛ فالابتكار ليس مشروعا فرعيا، بل ضرورة تنمية تحتِّمها المعطيات المعاصرة، التي تكتنفها العديد من التحديات العصيبة التي تواجه الدول سواء أكانت تلك الناتجة عن الركود العالمي في العديد من المجالات، أو تلك التي تواكب سلاسل التوريد لمختلف الصناعات، والتي تحتاج إلى تطوير أنظمة الابتكار بُغية إيجاد حلول ابتكارية قادرة على دفع الصناعات وتطويرها.

إن الابتكار المرن القابل للتطوير والمركِّز على احتياجات المجتمعات وأولوياتها، هو غاية الدول والحكومات التي تسعى إلى تطوير مرونتها وقدرتها على التكيُّف؛ من خلال انفتاحها على تغيير السياسات وتقديم الخدمات، وتطوير أنظمة الإدارة بما يتلاءم من تلك الأنماط الجديدة التي تتواكب مع التطورات المرنة القادرة على تنشيط آفاق الابتكار وتسريع اتخاذ القرارات، من خلال التركيز على مفاهيم جديدة مبتكرة تقوم على قيم الشفافية والرعاية، والمحافظة على الهُوية وتعزيز العدالة والمساواة وغيرها، وذلك كله عن طريق دعم توجهات ابتكارية قادرة على الانفتاح والمرونة والتشاركية، فبغيرها لا يمكن المضي في تنمية المجتمعات في ظل العديد من التحديات والتقلبات العالمية على كافة الأصعدة.

يؤكد تقرير مؤشر الابتكار العالمي 2023، الذي عنون نسخته السادسة عشرة بـ (الابتكار في مواجهة عدم اليقين)، الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، على تلك الإشكالات والتحديات التي يعرِّفها بـ (حالة عدم اليقين)، المرتبطة ببقايا الوباء العالمي، والصراعات الجيوسياسية، والصعود المتسارع للتكنولوجيا التحويلية المتمثلة في الذكاء الاصطناعي، ولهذا فقد أصبحت الرؤى طويلة الأمد في (خطر) بسبب تلك التحديات التي قد تؤدي إلى التراجع في تعزيز الموارد والمعرفة والخبرة التي تحتاجها تلك الرؤى، إذا لم تُطوَّر أنماط جديدة للابتكار، تتواكب مع تلك الإشكالات والتحديات. فالتكنولوجيا والابتكار هما محركا النمو في المجتمعات خاصة في مجالات الاقتصاد والثقافة والتعليم، ولهذا فإن الاستثمار في البحث والتطوير في دعم أنماط الابتكار وتطبيقاته، يُعد أحد أهم تلك المحركات التي تُسهم في تحريك بيئة الابتكار و(تعزيز فرص التنمية الاجتماعية ودعم النمو الإبداعي الشامل والتشاركي). وفي محاولة تتبُّع مؤشر الابتكار العالمي للإجابة على مجموعة من الأسئلة منها (ما الحالة الراهنة للابتكار؟، وما مدى سرعة تقدُّم التكنولوجيا واحتضانها؟ وما الآثار المجتمعية الناتجة عنها؟)، فإن التقرير يكشف عن أربع مراحل رئيسة في دورة الابتكار تتمثَّل في الاستثمار في العلوم والابتكار، والتقدم التكنولوجي، والاعتماد على التكنولوجيا، والتأثير الاجتماعي والاقتصادي للابتكار.

فعلى الرغم من استمرار التقدُّم التكنولوجي في مجالات تكنولوجيا المعلومات والصحة والنقل والطاقة وغيرها، إلاَّ أن الاستثمار في العلوم والابتكار قد واجه العديد من التحديات، حيث أظهر تراجعا في التمويل مع توقُّع في نمو ميزانيات البحث والتطوير الحكومية على مستوى العالم، فقد أظهرت نتائج المؤشر أن هناك زيادة ملحوظة في الاعتماد على التكنولوجيا تسهِّل الوصول تدريجيا إلى الصرف الصحي الآمن والاتصال، كما تجعله أكثر انتشارا، إضافة إلى ازدهار استيعاب السيارات الكهربائية(EV) ، وزيادة الرغبة في الأتمتة، إلاَّ أن التأثير الاجتماعي والاقتصادي للابتكار ما زال منخفضا، ويعزي التقرير ذلك إلى تداعيات أزمة كوفيد 19، وأثرها في تقلُّب إنتاجية العمل، إضافة إلى انخفاض متوسط العمر المتوقع للسنة الثانية على التوالي، (مع استمرار زيادة متوسط العمر ، ولكن ببطء أكبر)، مع استمرار انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في النمو.

يؤكد مؤشر الابتكار العالمي 2023 أن (بيئة الابتكار مليئة بالفرص الجديدة)، إلاَّ أن هناك أيضا تحديات كبيرة تحتاج إلى حلول ابتكارية؛ إذ من المتوقع استمرار الابتكار في ضوء تطورات العصر الرقمي وموجات الابتكار في العلوم، حيث تظهر التطورات في مجالات عدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة والتقنيات الخضراء والروبوتات، في ظل توقعات متفائلة بـ (الاستثمار المستقبلي في الابتكار وتعزيز نمو الإنتاجية والاستفادة من فرص الابتكار الجديدة)، بما يتواءم مع قيم المجتمعات وهُويتها.

ولأن سلطنة عُمان من الدول التي حرصت دوما على تلك مبادئ وقيم الابتكار، وأنماط ممارستها وترسيخها، فإنها تسعى إلى تطوير تمكين أفراد المجتمع منها، عن طريق دعم التوجهات الحديثة، وتطوير آفاق الابتكار والإبداع، وتمكين مسارات العمل المرن، وزيادة الاهتمام بوعي المجتمع بأهمية تطوير أنماط التفكير الحديثة عن طريق التدريب والتأهيل، وتحسين المهارات الإبداعية ووسائل قياس الابتكار وتسريع نهج التنمية المستدامة من خلال إيجاد حلول مبتكرة تتناسب مع تلك المهارات، إضافة إلى إفساح المجال للشركات الصغيرة والمتوسطة للعمل وفق متطلبات تلك المهارات.

ولهذا فإن سلطنة عُمان تتقدَّم عشرة مراكز في مؤشر الابتكار العالمي 2023 معتمدة في ذلك على الدعم الكبير الذي يحظى به الابتكار من قبل الحكومة والقطاعات الخاصة والمدنية، وبالتالي فإن هذه القفزة المهمة في المؤشِّر تعكس الاهتمام المتزايد من ناحية، والإيمان بأهمية الابتكار في ظل التطورات والتنمية التي تشهدها الدولة، ودعم التطور التقني من ناحية أخرى، لذا فقد جاءت سلطنة عمان في المرتبة 69 من بين 132 دولة حول العالم، وهو تقدُّم لا يعتمد على تلك الركائز التي جاءت فيها سلطنة عُمان من بين أوائل الدول مثل ركيزة رأس المال البشري، والبحوث والبنية الأساسية وحسب، ولا تلك المؤشرات الفرعية التي كانت فيها في مقدمة دول العالم، بل أيضا التقدم العام في المؤشرات، وقفزات لافتة في العديد منها مثل مؤشر إنتاجية العمل الذي تقدمت فيه 93 مرتبة مقارنة بالعام الفائت.

إن التقدُّم في مؤشر الابتكار يكشف القدرات الإبداعية والابتكارية التي تتميَّز بها سلطنة عُمان، وإمكانات التسريع التي يمكن أن تُسهم في قفزات قادمة في ركائز المؤشر؛ فما تقدمه التكنولوجيا من معطيات يمكِّن القطاعات جميعها من تنمية قدراتها، وتقديم بيئة إبداعية قادرة على دفع تجارب وأفكار جديدة تتناسب وأولويات الدولة واحتياجات المجتمع، بما ينعكس على التنمية المجتمعية واستدامتها؛ فالتطورات التي يشهدها القطاع البيئي والمواصلات والطاقة، إضافة إلى إمكانات التعليم والثقافة والإعلام وغيرها، يمكن أن يمثِّل بيئات غنية لتطوير منظومة الابتكار، إذا ما اعتمدت هذه القطاعات على البيئة الإبداعية في تطوير منظومتها العملية، وإذا ما استطاعت أن تكون بيئة جاذبة للابتكار.

ولهذا فإن استمرار العمل في بناء القدرات الإنتاجية والابتكارية وتكييف الاعتماد على التكنولوجيا بما يتوافق مع حاجات المجتمع وأولويات القطاعات، وبما يضمن تيسير وصول التكنولوجيا إلى أفراد المجتمع، ويدعم قدرتهم على بناء المهارات الرقمية وإجراء البحوث والدراسات، وتطوير المنتجات والإنتاج المرن للخدمات والسلع، فعلى الرغم من تلك القفزات التي حققتها سلطنة عُمان في مؤشر الابتكار العالمي 2023 في ركائز عدة ومؤشرات مختلفة، إلاَّ أنه لابد من مراجعة ذلك الفارق بين مدخلات الابتكار وما حققته من مراكز ومراتب متقدمة مقارنة بالعام الفائت، ومخرجات الابتكار التي تحتاج إلى مراجعة من حيث التوازن بين ما تقدمه الدولة من دعم للتعليم في التخصصات العلمية، والبحوث والدراسات وما تتيحه من تقنيات نظم المعلومات والاتصالات ونمو إنتاجية العمل، الذي لا يتوازن مع المخرجات من حيث الصناعات الابتكارية، واتجاهاتها وغيرها.

فالابتكار يقوم على الدعم والتمويل وتهيئة البيئة الابتكارية، إضافة إلى تدريب وتأهيل رأس المال البشري، وإعداده ليكون أساس الابتكار وقوته التي تؤسس القدرة الابتكارية في الدولة وتقود مراحل التنمية والإنتاج الابتكاري، من أجل استدامة تنموية مستقبلية، لذا فإن المشاركة الفاعلة للارتقاء بالقدرات الإنتاجية والمخرجات الصناعية وتطوير الخدمات والسلع الابتكارية، هو ما يؤدي إلى إنتاج اقتصادات ابتكارية في كافة المجالات، إضافة إلى الاهتمام بالابتكار في القطاعات الثقافية بشكل خاص الذي سيدعم تلك المخرجات، فما زالت المؤشرات الثقافية للابتكار تحتاج إلى رعاية ودعم من أجل تعزيز قدرة الصناعات الإبداعية المرئية والبصرية على الإسهام الفاعل في تعزيز مكانة عُمان بين دول العالم.

إن الابتكار ضرورة معرفية وثقافية وتنموية، فالعالم يتجه نحو إنتاج الصناعات الابتكارية، وفتح آفاق المعرفة والمهارات والخبرات التقنية والإبداعية والابتكارية، وعلينا أن نُسهم جميعا مؤسسات وأفراد في دعم هذا التوجُّه العالمي في سلطنة عُمان، وأن نتعاون ونتشارك من أجل مستقبل ابتكاري يُعزِّز ثقافتنا الوطنية ويدعم آفاق انفتاحنا المعرفي.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة