علينا أن نكون أسرع في الوباء القادم

16 أبريل 2022
16 أبريل 2022

ترجمة أحمد شافعي -

كان لوباء «كوفيد-19» أن يبدو شديد الاختلاف لو أن العلماء تمكنوا من التوصل إلى علاج بصورة أسرع، كان الأرجح أن تنخفض معدلات الوفيات كثيرا، وربما كان ليصعب أكثر على الأساطير والمعلومات الكاذبة أن تنتشر بالنحو الذي انتشرت به.

في أول أيام الوباء، توقعت أن يظهر علاج قبل وقت كبير من توافر اللقاحات، ولم أكن وحدي في ذلك، فأغلب من أعرفهم في مجال الصحة العامة شعروا بمثل ما شعرت به، ومن سوء الحظ أن ذلك لم يحدث، وتوافرت لقاحات آمنة فعالة لكوفيد في غضون سنة ـوذلك إنجاز تاريخي- لكن تباطأ ظهور العلاجات الكفيلة بإبعاد كثير من الناس عن المستشفيات تباطؤا مدهشا.

ولم يكن ذلك لنقص المحاولة، فما كاد فيروس كورونا يتحدد، حتى شرع الباحثون يبحثون عن العلاج السحري: أي عقار مضاد فيروسي يكون رخيصا وسهل التدبير وفعالا لمختلف المتحورات وقادرا على مساعدة الناس قبل أن يستفحل بهم المرض، واستكشف الباحثون عشرات العلاجات المحتملة، ومنها هيدروكسي كلوروكوين وديكساميثازون وريمديسفير وبلازما النقاهة، وبدا البعض واعدا، لكن جميعها انطوت على عيوب.

في أواخر 2021، أثمر القليل من جهودهم، فلم يكن ذلك بالسرعة المثلى، لكنه مع ذلك جاء في الوقت المناسب لإحداث أثر ضخم، فقد توصلت ميرك وشركاؤها إلى مضاد فيروسي عرف بـ«مولنوبيرافير» تبيّن أنه يقلل كثيرا مخاطرة العلاج في المستشفى أو الوفاة للأشخاص الأكثر عرضة للخطر، وبعد فترة قصيرة ثبت أن مضادا فيروسيا فمويا آخر هو باكلوفيد -من صنع فايزر- ذو فعالية كبيرة بتقليله خطر المرض المستفحل أو الوفاة بنسبة تقترب من 90% لدى الراشدين غير المطعمين الأكثر عرضة للخطر. هذان العقاران أداتان نافعتان لمكافحة الوباء، لكن التوصل إليهما تم بعد وقت أكبر مما كان ينبغي، ولا يزال الحصول عليهما صعبا بالنسبة للكثيرين.

بحلول الوقت الذي توافرت فيه هذه العلاجات، كان قسم كبير من سكان العالم قد حصل على جرعة على الأقل من لقاح ما، ولكن محض وجود لقاح لا يعني أن العلاجات غير مهمة، في حالة كوفيد أو أي تفشٍّ آخر، فمن الخطأ أن نتصوّر أن اللقاحات هي نجمة العرض وأن العلاجات هي الافتتاحيات التي نتجاوزها سريعا إلى ما بعدها.

إننا محظوظون لأن العلماء توصلوا إلى لقاحات كوفيد بالسرعة التي توصلوا بها إليها، فلو لم يفعلوا ذلك لكانت حصيلة الوفيات أسوأ بكثير، لكن في حالة وقوع وباء آخر، وحتى في حالة استطاعة العالم التوصل إلى لقاح لمتسبب مَرَضي جديد في غضون مائة يوم، سيظل الوقت المستغرق لوصول اللقاح إلى أغلب السكان كبيرا للغاية، ويصدق هذا بصفة خاصة إن كنا بحاجة إلى جرعتين أو ثلاث من أجل وقاية تامة ومستمرة، ولو أن المتسبب في المرض قابل للانتقال ومميت، فالعقار العلاجي قد ينقذ عشرات الآلاف إن لم يكن أكثر.

وحتى فور توافر العلاج سوف نظل بحاجة إلى علاجات جيدة، ومثلما رأينا في حالة كوفيد، لن يختار كل قادر على تلقي اللقاح أن يتلقاه، وبالتوازي مع التدخلات غير الدوائية، يمكن أن تقلص العلاجات الضغط على المستشفيات بحيلولتها دون التكدس الذي يعني في نهاية المطاف وفاة بعض المرضى ممن كان يمكن اجتناب وفاتهم.

في وجود علاجات جيدة، يمكن أن تنخفض مخاطرة المرض المستفحل والوفاة انخفاضا ملموسا، ويمكن أن تقرر البلاد تخفيف القيود على المدارس والجامعات والشركات، بما يقلل تعطيل التعليم والاقتصاد. وأهم من ذلك، تخيلوا كيف يمكن أن تتغير حياة الناس إذا كنا قادرين على القيام بالخطوة التالية من خلال ربط التحليل بالعلاج، فيستطيع كل من تظهر عليه أعراض مبكرة لكوفيد (أو أي مرض فيروسي آخر) أن يتجه إلى صيدلية أو عيادة في أي مكان بالعالم، ويجري التحليل، فإذا كانت النتيجة إيجابية يخرج ومعه المضاد الفيروسي إلى البيت.

كل ذلك لأقول إن العلاجات ذات أهمية جذرية في أي تفشٍّ، ولكي نفهم سبب التأخر في العقاقير وكيف يمكن اجتناب مثيل لها في المستقبل، علينا أن نقوم بجولة خلال عالم العلاجات: ما هي، وكيف تصل من المعمل إلى السوق، ولماذا لم يكن أداؤها أفضل خلال هذا الوباء وكيف يمكن أن يمهد الابتكار الطريق لاستجابات أفضل في المستقبل؟

معالجة المرض ليست بالأمر الجديد على البشر، فاستعمال الجذور والأعشاب والمكونات الطبيعية كعناصر شفائية يرجع إلى العصور العتيقة، وقبل نحو تسعة آلاف عام، قام أطباء أسنان العصر الحجري بثقب أسنان مرضاهم بقطع من الصوان في ما يُعرف الآن بباكستان، والمعماري والطبيب إمحوتب في مصر القديمة صنَّف علاجات مائتي مرض قبل قرابة خمسة آلاف عام، والطبيب الإغريقي أبو قراط وصف نوعا من الأسبرين -المستخلص من لحاء صفصافة- قبل أكثر من ألفي عام. لكن في القرنين الماضيين فقط تمكنا من تركيب أدوية في المعمل بدلا من استخلاصها من أشياء موجودة في الطبيعة.

وفي حين أن بعض الأدوية التي نعتمد عليها اليوم مخترع عمدا من خلال بحث مضن، ثمة أدوية أخرى هي نتاج للصدفة البحتة، ففي ثمانينيات القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، كان طالبا كيمياء في جامعة ستراسبورج يختبران ما إذا كان بوسع مادة اسمها النفتلين -وهي مستخلص ثانوي من القار- يمكن أن تستعمل لعلاج ديدان معوية فوقعا على حل لمشكلة ما كانا يبحثان عن حل لها أصلا، لم يكن النفتلين حلا للتخلص من الديدان لكنه أمام دهشة الطالبين قضى على حمى المريض، وبعد مزيد من البحث، أدركا أنهما لم يكونا يعملان على النفتلين أصلا، بل على عقار كان مجهولا حتى ذلك الحين هو الأسيتانيليد أعطاه لهما الصيدلي عن طريق الخطأ، وسرعان ما وصل الأسيتانيليد إلى الأسواق باعتباره علاجا للحمى، لكن الأطباء وجدوا أن له أثرا جانبيا مؤسفا: إذ يجعل بشرة بعض المرضى تصاب بالزرقة، في النهاية استخلصا مادة من الأسيتانيليد تتوافر فيها جميع الفوائد دون الهالة الزرقاء سُميت تلك المادة بالباراسيتامول وهي المعروفة لدى الأمريكيين بـ«أسيتامينوفين» وأيضا باسم «تايلينول».

لم يزل اكتشاف العقاقير اليوم يعتمد على مزيج من العلم الجيد والحظ الجيد، لكن للأسف عند ظهور تفش ويكون في طريقه إلى التحوّل إلى وباء لا يكون الوقت كافيا للاعتماد على الحظ، ففي المرة التالية التي نواجه فيها عدوى، سيكون العلماء بحاجة إلى التوصل إلى علاجات بأسرع ما يمكن، وبأسرع مما فعلوا في حالة كوفيد.

لنفترض أننا في هذا الموقف: أي أن فيروسا جديدا يبدو أنه في طريقه إلى الانتشار عالميا، ونحن بحاجة إلى علاج. كيف سيشرع العلماء في التوصل إلى مضاد فيروسي؟

الخطوة الأولى هي وضع خريطة للشيفرة الجينية للفيروس ومعرفة أي البروتينات أهم بالنسبة له، هذه البروتينات الجوهرية تعرف بـ«الأهداف»، ويصفو البحث عن علاج إلى إلحاق الهزيمة بالفيروس من خلال العثور على الأشياء التي تحول دون أن تعمل الأهداف على النحو الذي ينبغي لها.

حتى ثمانينيات القرن الماضي كان على العلماء الذين يحاولون تحديد مكونات واعدة أن يعتمدوا في تحديد المكونات الصحيحة على منهجية بطيئة هي منهجية التجربة والخطأ، اليوم باستعمال النمذجة ثلاثية الأبعاد والآليات الروبوتية التي تجري آلاف التجارب في وقت واحد، يمكن أن تجرب الشركات ملايين المكونات في غضون أسابيع، وهي مهمة كانت لتستوجب سنوات لإتمامها بغير هذه الآليات.

ما إن يتحدد مكون واحد حتى تقوم الفرق العلمية بتحليله وتحديد ما إذا كان يستحق المزيد من الاستكشاف. وما أن تتوصل الفرق إلى مرشح مناسب، حتى تبدأ في العادة في إنفاق سنوات عديدة في المرحلة «ما قبل السريرية»، ويجري فيها درسه لتحديد ما إذا كان آمنا ويحقق الاستجابة المنشودة. وتجرى أولى التجارب على الحيوانات، (والعثور على الحيوان المناسب ليس سهلا، إذ يقول العلماء إن الفئران تكذب، والقردة تبالغ، والقوارض تمكر).

إذا سارت الأمور جميعا على ما يرام في المرحلة ما قبل السريرية، ينتقل العقار إلى القسم الأخطر والأعلى تكلفة من العملية: أي التجارب السريرية على البشر، بتصريح من جهة حكومية منظمة -هي في الولايات المتحدة هيئة الغذاء والعقار- يبدأ العلماء تجربة صغيرة على عشرات قليلة من المتطوعين الراشدين الأصحاء، ويبحثون حينئذ عن معرفة ما إذا كان العقار يسبب أي آثار ضارة والتركيز على جرعة عالية بقدر يكفي للنفع دون أن يجاوزه إلى الإمراض.

وبافتراض مُضيِّ كل شيء مرة أخرى على ما يرام، يتم الانتقال إلى مجموعة تجارب أكبر فأكبر. وأخيرا بعد ثلاث مراحل إذا اعتقدوا أن العقار آمن وفعال، يرجع العلماء إلى الجهة ويتقدمون بطلب تصريح، ثم بافتراض حصولهم على الضوء الأخضر، يبدأ وقت التصنيع.

في هذه النقطة، سوف يعمل فريق من الكيميائيين على العثور على طريقة متسقة لإنتاج الجزء المحوري من العقار، المعروف بـ«العنصر الفعال». ثم يقوم الفريق العلمي بمعالجة السؤال الكبير التالي: كيفية التأكد من وصوله فعليا إلى كل من يحتاج إليه. وما هذه بالمشكلة يسيرة الحل على الإطلاق.

اختراع عقار، كما ترون، مسألة معقدة تستوجب علما كثيفا شاقا، وكل خطوة تعترضها عقبات لوجستية وعلمية، ولكننا بحاجة إلى تسريع هذه العملية. فكلما تمكن الباحثون بصورة أسرع من الوصول إلى عقارات فعالة آمنة لأمراض سريعة الانتشار مثل كوفيد، ازداد عدد الأنفس الناجية وازددنا قدرة على تقليل العبء على أنظمة الرعاية الصحية، ومن حسن الحظ أن سبل تسريع العملية وتبسيطها متوافرة ودون الاضطرار إلى التضحية بالآمن.

من الحلول التي تضمن لعمال الرعاية الصحية أن يجدوا بين أيديهم في التفشي الكبير التالي خيارات علاجية أفضل مما توافر لهم خلال كوفيد أن نستثمر في المكتبات الكبرى للعناصر الدوائية التي يجري الباحثون مسحها ليروا إن كان ثمة أدوية قائمة فعالة ضد أمراض جديدة، بعض هذه المكتبات قائم بالفعل، لكن العالم بحاجة إلى المزيد، نحن بحاجة إلى مكتبات تغطي كثيرا من أنواع العقاقير، لكن أرجحها نفعا -في نظري- هي المكتبات المعروفة بالعلاجات العائلية واسعة النطاق سواء أهي أجسام مضادة أم عقاقير قادرة على معالجة نطاق واسع من الأمراض الفيروسية المعدية، وخاصة تلك التي يرجح أن تتسبب في وباء.

بوسع الباحثين أن يجدوا سبلا أفضل لتنشيط ما يعرف بـ«المناعة الفطرية»، وهي جزء من نظامكم المناعي يتحرك في غضون دقائق أو ساعات من اكتشافه لأي غازٍ أجنبي، فهو الخط الدفاعي الأول في أجسامكم، بتعزيز استجابة المناعة الفطرية، يمكن أن يساعد عقار ما أجسامكم في إيقاف عدوى قبل أن تتمكن.

لتحقيق هذه الأساليب الواعدة، يحتاج العالم إلى استثمار المزيد في فهم كيفية تفاعل مختلف مسببات الأمراض الخطيرة مع خلايانا، والعلماء يعملون على طرق لمحاكاة هذه التفاعلات بحيث يكتشفون سريعا أي العقاقير أنجع في حالة تفش معين.

قبل سنوات قليلة، رأيت عرضا لـ«رئة على رقاقة»، وهي أداة تجريبية يمكنك إمساكها بيدك، وتعمل تماما عمل الرئة، بما يسمح للباحثين أن يدرسوا كيفية تأثير عقاقير مختلفة وأمراض وخلايا بشرية على بعضها بعضا، بالتقدم في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، يمكن الآن أن نستعمل أجهزة الحاسوب في تحديد نقاط الضعف في الأمراض التي نعرفها فعليا، وسيكون بوسعنا أن نفعل مثل ذلك في أمراض جديدة تظهر، هذه التقنيات تسارع أيضا البحث عن مكونات جديدة تهاجم نقاط الضعف هذه.

بتمويل كاف، يتسنى لمجموعات مختلفة أن تتناول المكونات الجديدة الواعدة عبر دراسات المرحلة الأولى قبل حتى أن يوجد وباء، أو تتوصل على أقل تقدير إلى العديد من العناصر المحتملة التي يمكن تحويلها إلى منتجات فور أن نعرف طبيعة الهدف.

باختصار، برغم أن العلاجات لم تنقذنا من كوفيد، فإنها تعد بالكثير في ما يتعلق بإنقاذ حياتنا والحيلولة دون أن تؤدي تفشيات المستقبل إلى شلل الأنظمة الصحية، ولكن لتحقيق أغلب هذه الوعود، يلزم أن يستثمر العالم في البحث والأنظمة التي نحتاج إليها لتزداد سرعة وصولنا إلى العلاجات، ولذلك قامت مؤسستي بدعم (مسرِّع العلاجات) في جامعة دوك، ولكن لا بد من مبادرات أوسع لإحداث تغيير دائم. وسوف يقتضي هذا استثمارا كبيرا للجمع بين العالم الأكاديمي والصناعة وأحدث أدوات البرمجيات، لكننا إذا نجحنا، فحينما يواجه العالم التفشي القادم، سوف ننقذ الملايين من الأرواح.

بيل جيتس رجل أعمال أمريكي ومطوّر برمجيات والمقال مأخوذ من كتاب يصدر له الشهر القادم بعنوان «كيف نمنع الوباء القادم».

خدمة «نيويورك تايمز» ترجمة خاصة بجريدة عمان