عالم مليء بالأكاذيب والمتناقضات

23 أبريل 2024
23 أبريل 2024

هناك مقال سابق لي بهذه الجريدة الرصينة بعنوان «عالم يتجه نحو الجنون»، ويبدو أن هذه النبوءة قد أصبحت الآن حقيقة واقعة بالفعل في عالمنا الراهن. الجنون يبدأ بالفعل عندما ننفصل عن الواقع أو العالم الفعلي، ونروِّج لأكاذيب وتصورات متناقضة نعيش فيها ونؤمن بها. هذا هو حال عالمنا الآن، والشواهد على ذلك لا حصر لها، يمكن أن نأتي على شيء منها فيما يلي:

ينظر الغرب إلى حرب روسيا على أوكرانيا باعتبارها حربًا غير مشروعة وتمثل اعتداءً على سيادة دولة أخرى هي أوكرانيا، في حين تسمى روسيا حربها على أوكرانيا بأنها حرب على النازية. وكلا الموقفين كاذبان ولا يعبران عن الدوافع الحقيقية للحرب: فأوكرانيا- كما قلنا من قبل- ليست سوى ساحة حرب مستترة بين نفوذ الغرب أو حلف الناتو الذي يريد أن يتمدد شرقًا باتجاه روسيا، وبين الكتلة الشرقية الصاعدة بزعامة روسيا والصين التي تريد التصدي لهذا التمدد. زعيم أوكرانيا لم يكن سوى أداة راهن عليها الغرب، ولذلك راجت أحداث هذه الحرب واستولت على الأخبار اليومية لحظة بلحظة؛ ولما فشل هذا الرهان وبدا أن روسيا قد كسبت الحرب حتى الآن ورسخت أقدامها في أوكرانيا؛ بدأت أخبار هذه الحرب تتوارى تدريجيًّا، وبدأ المسكين زعيم أوكرانيا الذي صنع منه الغرب بطلًا وهميًّا- يشكو من أن الغرب قد تخلى عنه، وأنه راح يهتم بدعم إسرائيل ولا يهتم بدعم أوكرانيا! لم يفهم هذا المسكين أدوات اللعبة: لعبة السياسة في عالمنا الراهن.

تكررت مثل هذه الأكاذيب والمتناقضات في حرب إسرائيل على غزة منذ أكثر من نصف سنة: روجت إسرائيل لأن حربها على غزة هي حرب على الإرهاب والإرهابيين، وروجت لأكاذيب من قبيل: قتل حماس للنساء واغتصابهن وقطع رؤوس الأطفال. راجت هذه الأكاذيب في الإعلام الغربي وعلى لسان ساساته، إلى أن انكشفت هذه الأكاذيب بفعل وسائل التواصل الاجتماعي التي صورت بالصوت والصورة وحشية العدوان الإسرائيلي التي لا نظير لها في التاريخ، والتي تمثلت في القتل المتعمد للنساء والأطفال والخدج والمسعفين والصحفيين الذين ينقلون الأحداث. وعلى الرغم من أن الشعوب ثارت على هذا التزييف للحقائق، فما زالت سياسات الدول في الغرب تدعم إسرائيل بالأسلحة التي تستخدمها في قتل من يسمونهم بالإرهابيين. وهنا يُثار السؤال: من هو الإرهابي حقًّا؟ هل هو الذي يدافع عن أرضه السليبة أم من يقتل الأبرياء من دون رحمة؟! ما أقصده أن بؤرة الصراع بين الشرق والغرب قد تحولت من أوكرانيا إلى فلسطين وغزة. ذلك أن إسرائيل بالنسبة للغرب هي أيضًا أداة لإدارة الصراع والهيمنة، وكما قال الفيلسوف الكبير روجيه جارودي منذ عقود: إن إسرائيل هي حاملة طائرات أمريكية نووية في الشرق الأوسط!

الأمر نفسه ينطبق على الصراع مع إيران وأذرعها في المنطقة العربية. حقًّا أن إيران قد سعت إلى التمدد في المنطقة العربية من خلال أذرعها في لبنان (حزب الله) وفي اليمن (أنصار الله) وفي العراق وسوريا، ولكن هذا التمدد كان طبيعيًّا بحكم ضعف هذه الدول التي أصبحت مسرحًا لعمليات الصراع في الشرق الأوسط، وهو صراع يقوم بين جبهتين إحداهما تسعى لدعم مصلحة إسرائيل وتمددها وهيمنتها كذراع للغرب، والأخرى تسعى إلى التمدد في المنطقة العربية وتشكيل محور مقاومة ضد هيمنة إسرائيل. أما القول بأن إيران تسعى من وراء ذلك كله إلى تمديد التوغل الشيعي في المنطقة العربية، فإنه لا يكفي وحده لتبرير هذا الصراع. ولذلك فإن إيران تظل هي الدولة التي تقاوم من خلال أذرعها هيمنة إسرائيل وصلفها من بعد حرب 1973.

تلجأ إسرائيل إلى نوع من البلطجة المعتادة التي تمارسها في اطمئنان تام بأنها سوف تفلت من أي عقاب دولي بسبب دعم الولايات المتحدة والغرب لها، فقامت بقصف القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل بعض القادة الإيرانيين في الحرس الثوري (وهو ما يعني أنها قامت بقصف أرض إيرانية في سوريا)، ومع ذلك لم يصدر عن الغرب أية إدانة لهذا العدوان الذي تجرمه المواثيق الدولية؛ ولكن عندما قامت إيران بالرد سارع الغرب بإدانة وتجريم هذا العمل في نوع من الازدواجية في المعايير وممارسة الكذب وتصديقه بزعم أن إيران دولة إرهابية بينما إسرائيل دولة بريئة لا تمارس الإرهاب وتريد تصفية أية قوة إقليمية تناصبها العداء.

وهناك أكاذيب يتم الترويج لها بأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تمثل الديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط، في حين أنها تمارس الإرهاب منذ نشأتها ضد الشعب الذي احتلت أرضه بمباركة من الغرب. كما أن الولايات المتحدة نفسها التي تدعم إسرائيل في عدوانها هي الدولة التي مارست الإرهاب والعدوان طوال تاريخها، وليس الإرهاب الذي مارسته في الشرق الأوسط ببعيد: فهي التي صنعت قواعد الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط مثل: القاعدة والجماعات الإسلامية، وهي التي دمرت دولًا عديدة مثل العراق وسوريا (مثلما دمرت أفغانستان وغيرها من قبل) بزعم مقاومة هذه الجماعات نفسها والقضاء عليها، وجعلت مثل هذه الدول مسرحًا لعمليات الصراع بين الغرب والشرق.

ومع ذلك كله، فإننا نسمع هذه الأكاذيب والمتناقضات تتردد وتُروَّج يوميًّا، وهو ما يدفع العالم الآن إلى حالة من التوتر والصراع المعلن الذي ينذر بالتحول إلى حرب عالمية عندما يتجاوز الصراع حالة سعي القوى الإقليمية والدولية إلى التمدد والهيمنة إلى حالة المواجهة المسلحة المباشرة بين هذه القوى.