صوّت لبريكست.. أوقف القوارب
قبل أسابيع قليلة من استفتاء «بريكست» أخبرني صديق صوّت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بما يراه أعظم المكاسب: «لن نسمع شيئًا عن الهجرة مرة أخرى»، قال: كانت الفكرة أن منح الناس السيطرة التي يريدونها على الحدود سيجعل مسألة الهجرة تنتهي، فلا يجد السياسيون ما يستغلونه فيها، ويمكن للبلاد أن تنصرف إلى القضايا «الحقيقية» التي تحتاج إلى معالجة. لكن حسناً يمكن القول: إن هذه النبوءة خابت على نحوٍ بالغ؛ بحيث لم يعد هناك حتى حاجة إلى نقاش لاحق حولها.
ذلك أن الأمور ببساطة لا تسير على هذا النحو؛ فمع ملف الهجرة تتحرك خطوط اللعبة باستمرار. ولا شيء يوضح هذا أكثر من نايجل فاراج وقد حصل على كل ما قال يومًا إنه يتمناه: خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، وإنهاء حرية الحركة، ثم ها هو جرح آخر يتقيّح مجددًا حول قضية الهجرة، ومن يملك الحل؟ وحده حزب الإصلاح البريطاني بحسب خطابه! فالقضية لا تنتهي أبدًا. وما على المرء إلا أن ينظر إلى التصعيد المتواصل في الولايات المتحدة؛ ليدرك كيف تتسع الشبكة أكثر فأكثر. ففي غضون أشهر قليلة توسّع «التشديد على الهجرة» إلى درجة جعلت المهاجرين - سواء أكانوا يحملون أوراقًا رسمية أم لا - يخشون مغادرة منازلهم لشراء الطعام أو الذهاب إلى العمل، بينما تجوب وحدات الحرس الوطني الشوارع.
تبدأ القصة دائمًا من الحدود؛ حدود يُنظر إليها باعتبارها رخوة جدًا بحيث لا بد من إخضاعها لمستويات من القوة العسكرية، ومعاملة من يعبرها بأقصى درجات العقاب. يُصوَّر المهاجرون على أنهم «غزاة» يأتون لتنفيذ عمل إجرامي أو استغلالي. الساسة اليمينيون في المملكة المتحدة يتحدثون عن «غزو» منذ سنوات. ومع وصول دونالد ترامب إلى السلطة للمرة الثانية قنّن هذه الفكرة موسعًا نطاق الحماية الدستورية للولايات من «الغزو» لتشمل المهاجرين.
لقد أصبح الحد الجنوبي للولايات المتحدة اليوم مُعسكرًا عسكريًا؛ حتى المركبات المصفحة التي كانت متمركزة في العراق نُقلت إليه. ورغم أن معدلات عبور الحدود كانت في انخفاض قبل وصول ترامب إلى الرئاسة؛ فإن هذا الانخفاض تسارع منذ توليه المنصب. ففي أبريل من هذا العام تراجعت crossings بنسبة 94% مقارنة بالعام السابق. أليس هذا كافيًا؟ لا؛ لأن الأرقام في الحقيقة لا تهم. المغزى هو الاستعراض المتواصل للقوة. قال العميد جيريمي وينترز تعليقًا على الانخفاض: «نسبة الاحتواء بلغت 95%، لكن 95% ليست 100%». وحين يقترح الإعلام البريطاني أن الوقت قد حان للجوء إلى «دبلوماسية الزوارق الحربية» في التعامل مع قوارب الهجرة الصغيرة التي شكّلت عام 2024 نحو 4% فقط من مجمل القادمين إلى بريطانيا - ندرك أن المشهد نفسه يتكرر. فهذه الردود ليست عن النتائج، بل عن الاستعراض والمواقف الرمزية.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لا يمكن أن يتوقف أصلًا؛ فماذا عن أولئك الذين يعيشون بالفعل داخل البلاد؟ بموجب قوانين جديدة منحت سلطات أوسع لجهاز الهجرة والجمارك الأميركي (ICE) جرى اعتقال الجميع من المهاجرين غير النظاميين إلى الحاصلين على تصاريح إقامة ويعيشون وفق القانون، فيما تروّج إدارة ترامب لفكرة أن «الإجرام» هو المعيار الأساس للاحتجاز. يتجه هذا الجهاز لأن يصبح أكبر قوة شرطية في الولايات المتحدة، بصلاحياته الواسعة وعمليات اعتقاله الصاخبة في الأماكن العامة (بعضها باستخدام قنابل صوتية)، واحتكاكاته مع المواطنين، بما يعيد إنتاج صورة مشكلة ضخمة عصيّة على الحل، بدلًا من معالجتها. قرر ترامب أنه يريد ترحيل الملايين، وإذا لم يكن هؤلاء «الملايين» موجودين أصلًا فيمكن اختراعهم عبر استدعاء قوانين قديمة وإعادة تعريفها.
وفي بريطانيا يعتزم نايجل فاراج بعد أن يضمن «تأمين الحدود» عبر الترحيل التلقائي لكل من يصل على متن القوارب الصغيرة ترحيل 600 ألف شخص خلال دورة برلمانية من خمس سنوات. إنه رقم -كأرقام ترامب- جرى انتزاعه من الهواء، ثم بُنيت حوله خطط كاملة. وهذا المسار لا يسير إلا في اتجاه واحد نحو خلق أجهزة تنفيذية ضخمة، وإعادة كتابة القوانين أو تفكيكها، بل إعادة تفسير مفهوم «الإقامة القانونية» نفسه. من المتوقع تمامًا أن يُعاد تصنيف من وصلوا بطرق غير نظامية، ثم مُنحوا حق البقاء ضمن فئة «غير قانونيين»، ليُضافوا إلى قائمة «الغزاة». وإذا اعتبر البعض ذلك تنبؤًا متشائمًا فهذا فقط لأنهم لم يتابعوا جيدًا ما يجري.
وحين تستقر مثل هذه الأجواء التي تخوض فيها الأمة حربًا ضد المهاجرين على الحدود وفي الشوارع وفي أماكن العمل فكيف يمكن منعها من أن تمتد إلى المواطنين أنفسهم؟ إن مفهوم «البريطانية» آخذ في التآكل، وقد أعيد تعريفه بالفعل لدى بعضهم ليعني «المولود في بريطانيا». وعندما يصرّح الأكاديمي ماثيو غودوين بأن «أكثر من 50% من المساكن الاجتماعية في لندن يشغلها أشخاص ليسوا بريطانيين» فإنه يستند إلى أرقام تشير إلى من لم يولدوا في بريطانيا كثير منهم مواطنون متجنسون. إن الهوس بالسكان «غير الأصليين» وحرمانهم من الحقوق يمتد أيضًا ليطال من يحملون الجنسية. والنتيجة أن الأسر المختلطة التي تضم أفرادًا بجنسية وأفرادًا بلا جنسية تُربط جميعها بأضعف حلقاتها. وفي الولايات المتحدة جرى بالفعل ترحيل مواطنين - وفي بعض الحالات أطفال - في إطار هذه الحملات.
يمكن للبعض أن يجادل بأن الحقائق أو الأرقام لا تهم كثيرًا؛ لأن «فنادق اللجوء» تثير الغضب، وقوارب المهاجرين الصغيرة تجعل الناس يشعرون بأنهم يتعرضون لـ«غزو». ومن واجب السياسيين - بحسب هذا المنطق - طمأنة الرأي العام ومخاطبته حيث يقف. لكن ذلك يفترض أن الرأي العام ثابت، بينما هو عرضة دومًا للتأثيرات السياسية والإعلامية التي تغذي الإحساس بالأزمة، وتنقله باستمرار من مرحلة إلى أخرى من التصعيد. فعندما ألقى كير ستارمر خطابه المهم معلنًا سلسلة إجراءات لضمان أن «يكسب» المهاجرون حق البقاء جاء عنوان صحيفة ديلي ميل بالخط العريض: «لا سقف لعدد المهاجرين في حملة حزب العمال ضدهم».
ذلك لأن السؤال الجوهري في أزمات الهجرة ليس: «كم عدد المهاجرين أكثر مما ينبغي؟»، بل «كم عددهم القليل الذي يكفي؟». والجواب هو: «أقل من الصفر». ولأن ذلك مستحيل؛ فإن أي وعود متزايدة أو سياسات صارمة لن تكون كافية أبدًا. ففي كل مرة يُنفّذ «الحل الحاسم» - سواء كان بريكست، أو زيادة الترحيل، أو نشر البحرية - يظهر جوقة من الأصوات لتقول لنا: إن هذه إجراءات ضرورية لتهدئة الغضب، ثم تُنسى فورًا بمجرد أن يُطلب المزيد، فيُوافق الجميع على الإجراء التالي.
نسرين مالك كاتبة عمود رأي في الغارديان
تمت الترجمة باستخدام الذكاء الاصطناعي
